ما أن أعلن الرئيس الأميركي الانسحاب من الاتفاق النووي حتى تجلت بوضوح، الآثار السلبية على النظام الإيراني بالرغم من أن حيز إعادة فرض العقوبات سيبدأ في شهر أغسطس القادم. نسير مع القارئ الكريم في محاولة استقراء لأفق الخيارات المتاحة للنظام الإيراني لمواجهة تلك العقوبات والالتفاف عليها. وتركز العقوبات الأميركية على إيران في القطاع النفطي والمالي على وجه التحديد، بالإضافة إلى جوانب أخرى. التركيز على هذين القطاعين بمعنى محدودية حصول النظام الإيراني على العملة الصعبة، باعتبار أن 80% من ميزانية الحكومة تعتمد على العوائد النفطية، وعلى الجانب الآخر تراجع الشركات الأجنبية من الاستثمار في إيران نتيجة صعوبة تحصيلها لنتائج ذلك الاستثمار بسبب فرض العقوبات على التحويلات المالية، كل ذلك يؤدي إلى صعوبات جمة في انتظار الاقتصاد الإيراني. النقطة الأخرى الجديرة بالاهتمام هو أنه وبالرغم من أن العقوبات هي أحادية من الطرف الأميركي وليست عقوبات أممية، إلا أن وقع تأثيرها أشد قوة من تلك الأخيرة. وكيف يمكن أن تكون عقوبات أحادية لا تجبر الدول الالتزام بها في التعامل مع إيران، أن تكون أكثر تأثيراً؟ يتساءل القارئ. يمكننا أن تتضح ملامحها في التالي: سيطرة أميركا على التحويلات المالية العالمية. والسوق الأميركية الكبيرة وارتباط الشركات العالمية بهذا السوق. وطرح خيار إما الاستثمار في الولايات المتحدة وسوقها الكبير، أو المجازفة بكل ذلك والذهاب للاستثمار في إيران. والتعاملات الأجنبية والتبادل بالعملة الأميركية (الدولار) يجعل مسألة الاستثمار في إيران صعبة للغاية خصوصاً أن العقوبات تمنع حصول إيران على الدولار. تأثير هذا الأمر يمكن أن نستشفه بوضوح من خلال تصريحات بعض المحللين المعروفين في إيران، حيث صرح المحلل السياسي «صادق زيبا كلام» أن الصين على سبيل المثال لن تتخلى عن استثمارات تصل إلى 600 مليار دولار في أميركا لأجل إيران. نتيجة لما تقدم، وحتى قبل أن تتم إعادة فرض العقوبات، أعلنت العديد من الشركات العالمية ومنها بوينج وإيرباص وشيل وبيجو وغيرها وقف مشاريعها في إيران تجنباً للوقوع في العقوبات الأميركية. هذا بالرغم من الاجتماعات والزيارات المستمرة لوزير الخارجية الإيراني لعدد من الدول الأوروبية والاتصالات الهاتفية من قبل الرئيس الفرنسي وغيره للرئيس الإيراني حسن روحاني. لإدراك حقيقة الوضع والبناء عليه في معرفة خيارات النظام الإيراني للمستقبل وكيف يتعامل مع العقوبات القادمة، فإنه من المهم إدراك أبعاد تصريح اسحاق جهانجيري النائب الأول للرئيس الإيراني بقوله:ستزداد الأوضاع سوءاً في المستقبل، حتى أصدقائنا وجيراننا مثل روسيا والصين والأوربيين لا يستطيعون مساعدتنا. يأتي هذا التصريح بوصفه انعكاساً واضحاً للواقع، فبالرغم من الشروط التي وضعها المرشد للبقاء في الاتفاق النووي وكانت موجهة للدول الأوروبية، إلا أن الواقع من خلال تصريح"جهانجيري" يؤكد أن أوروبا عاجزة عن تحقيق تلك الشروط، فالدول الأوروبية لا تستطيع إجبار الشركات العالمية التابعة لجنسيتها ودفعها للاستمرار في العمل في إيران. نتيجة لذلك تبدأ الشركات العالمية العاملة في إيران وذات التأثير الفعال بالانسحاب تدريجياً وفي الجانب الآخر ستسعى الدول الأوروبية إلى استثناء بعض الشركات من تلك العقوبات للعمل في إيران، هذا الأمر تقابله تصريحات واضحة من قبل الإدارة الأميركية، والتي توحي ليس فقط رفض تقديم استثناءات، وإنما أيضاً فرض عقوبات جديدة وصفها الرئيس الأميركي أنها الأقسى على الإطلاق. انعكاسات الانسحاب الأميركي وتأثيره على الشركات العالمية العاملة في إيران، كان له صداه على الداخل الإيراني، والذي تمخض عن ارتفاع قياسي للدولار في مقابل التومان (1 دولار = 9000 تومان) هذا الأمر دفع بخروج عدد من التظاهرات في العاصمة الإيرانية ومحافظات أخرى وإغلاق المحال لبعض الوقت احتجاجاً على ذلك الارتفاع. يتساءل القارئ عن أفق الخيارات المتاحة للنظام الإيراني. من المرجح تزايد الضغوطات على النظام الإيراني في الفترة القادمة مع عجز واضح من قبل الغرب أو الصين وروسيا لمساعدة إيران في تجنب تلك العقوبات. استمرار في تدهور العملة الإيرانية في مقابل الدولار سينتج عنه مزيد من الامتعاض في الداخل الإيراني وبالتالي مزيد من تلك المظاهرات. يبقى هامش المناورة للنظام الإيراني في مدى ما يتوافر له من سيولة من العملات الصعبة وخاصة الدولار لتحقيق توازن نسبي في الداخل الإيراني وامتصاص ضغط العقوبات، وهذا قد يكون مفيداً إلى حد ما على المدى القصير. تصريح المرشد أن الإدارة الأميركية الحالية ستذهب مثل ما ذهبت سابقاتها، لعله يعطي مؤشراً على اتخاذ هذا النظام سياسة المقاومة على أمل انتهاء مدة رئاسة ترامب لتأتي بعدها إدارة مختلفة في توجهاتها، وهذا ما يجعل النظام الإيراني يستغل مواقف العديد من الدول التي لديها مواقف سلبية تجاه ترامب.