ماذا يعني أن توافق إثيوبيا بعد مرور 16 عاماً على صدور قرار لجنة التحكيم الدولية بترسيم حدودها مع أريتريا على قرار الترسيم؟ ولماذا الآن؟ ثم ماذا بعد؟ ليست المشكلة الحدودية بين أثيوبيا وأريتريا شأناً أفريقياً فقط. إنها شأن عربي أيضاً، وشأن أوروبي كذلك. فالصراع بين الدولتين التوأم دفع بمئات الآلاف من اللاجئين الأريتريين إلى الهجرة عبر اليمن. ومنهم من وصل حتى إلى إسرائيل، ومنهم من وصل إلى ليبيا ليعبر البحر المتوسط إلى إيطاليا، حيث نجح بعضهم، وابتلعت مياه البحر بعضهم الآخر. وتسبب الصراع الأثيوبي الأريتري في توسيع إطار الحرب الداخلية في الصومال، حيث تحولت هذه الدولة الفقيرة إلى مسرح لهذا الصراع. أريتريا تدعم المعارضة المحلية، وأثيوبيا تقف بكل قوتها العسكرية إلى جانب حكومة مقديشو. كذلك انعكست آثار الصراع الأثيوبي الأريتري على جنوب السودان الذي انفصل بدوره عن السودان. إلا أن هذا الانفصال لم يضع حداً للصراعات القبلية التي تتواصل في الجنوب حتى اليوم. وبالأساس كانت الدولتان، إثيوبيا وأريتريا، دولة واحدة، وخاض زعيماهما قبل الانفصال (أسياس ومليس) حركة عصيان مشتركة ضد الرئيس الأثيوبي السابق الجنرال مانغستو هايلي مريام على خلفية سياساته الاستبدادية. ولم يمض وقت قصير على الإطاحة به، حتى بادرت أريتريا إلى الانفصال وإعلان استقلالها. اختلف الرئيسان على رسم الحدود بين دولتيهما، وانفجرت صراعات دموية طويلة بينهما. بدأ الصراع في عام 1998 حول قرية «بادم»، وسرعان ما تطور إلى حرب استمرت حتى عام 2000، وأودت بحياة أكثر من مائة ألف شخص من الطرفين. تدخلت هيئات دولية وأفريقية وأوروبية للإصلاح بينهما. وأدت التدخلات إلى صدور قرار دولي في عام 2001 بترسيم الحدود بين أريتريا وإثيوبيا، وتعهدت الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بضمان تنفيذه، لكن أديس أبابا رفضته برغم أنها تعهدت مسبقاً بالالتزام بما تقرره اللجنة الدولية. وهكذا استمر الصراع الدموي بين الجانبين. أما اليوم فقد غيرت إثيوبيا رأيها وأعلنت موافقتها على الترسيم.. فما الذي حدث؟ للإجابة على هذا السؤال، لابد من الإشارة إلى التغيير الذي حدث داخل إثيوبيا؛ فلأول مرة في تاريخها الحديث يتبوأ منصب رئاسة الحكومة فيها أحد زعماء قبائل أورومو، وهي إحدى أكبر الجماعات الإثنية في البلاد، لكنها عانت التهميش وسوء المعاملة على مدى عقود طويلة. وجاء اختيار «آبي أحمد علي» كزعيم لـ«الجبهة الشعبية الديمقراطية» في وقت بدأت فيه إثيوبيا تعاني من انخفاض حاد في الدخل القومي وفي الاحتياط المالي، مع ارتفاع حجم ديونها الخارجية. وهنا أدرك الإثيوبيون أنه لابد من التغيير، فكان الاتفاق على اختيار الرئيس الجديد، وكانت الموافقة على القرار الدولي بترسيم الحدود مع أريتريا، وقبل ذلك إطلاق سراح السجناء السياسيين، ورفع حالة الطوارئ، وإطلاق الضوء الأخضر أمام مساهمات القطاع الخاص في مؤسسات القطاع العام. وحتى تؤكد جديتها في الالتزام بكل هذه المتغيرات، بادرت إلى سحب قواتها العسكرية من الأراضي التي أعلنت لجنة التحكيم الدولية أنها أراضٍ أريترية. وتوّج هذه المتغيرات العميقة الرئيس الأثيوبي بزيارة أريتريا، وذلك لأول مرة منذ الانفصال. تنزل هذه المتغيرات في الموقف الأثيوبي برداً وسلاماً على أريتريا. فمنذ استقلالها في عام 1993 وهي تفرض الخدمة العسكرية الإجبارية على شبابها، على حساب التفرغ للدراسة والعمل المنتج. ونكاية بالحبشة أغلقت في وجهها موانئها على البحر الأحمر، مما ألحق أضراراً فادحة باقتصاد الدولتين معاً. وتحسباً لاجتياح عسكري أثيوبي، قدمت أريتريا تسهيلات عسكرية لكل من الولايات المتحدة وفرنسا، وكذلك لألمانيا والصين واليابان. ويعود هذا الاهتمام الدولي إلى الموقع الاستراتيجي المهم لأريتريا في البحر الأحمر بين باب المندب في الجنوب وقناة السويس في الشمال. من هنا فإن المصالحة بين إثيوبيا وأريتريا تفتح صفحة جديدة في البحر الأحمر، وتوفر للدول العربية على جانبيه فرصة جديدة لدور جديد.