استمرت على مدى الأسبوعين الماضيين المظاهرات في محافظة البصرة، وامتدت إلى بقية محافظات جنوب ووسط العراق، وصولاً إلى بغداد. المظاهرات التي انطلقت شرارتها من محافظة البصرة في 7 يوليو، بسبب توقف إمدادات الكهرباء والماء المستوردة من إيران، وتصاعدت باقتحام المتظاهرين مقرات شركات نفطية في حقل القرنة بالبصرة، مطالبين بفرص عمل وتوفير الخدمات. وسرعان ما انتشرت نيران المظاهرات كالهشيم في محافظات واسط وميسان والنجف وبابل، ورافقت الاحتجاجات اشتباكات مسلحة واقتحام لمقار حزبية وحكومية، وتدخلت معها الحكومة المركزية في بغداد بفرض حظر التجوال واعتقالات ووعود حكومية بتنفيذ مطالب المتظاهرين وتحسين الخدمات، وفي الوقت ذاته قامت بإرسال قوات الجيش والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب إلى المحافظات الجنوبية، وإلى أنحاء العاصمة مستبقة امتداد الاحتجاجات إلى العاصمة. وأثيرت العديد من التساؤلات حول مظاهرات البصرة، بدءاً بانطلاقها وتوقيتها، فكيف تخرج مظاهرات عارمة من دون قيادة واضحة أو نخب سياسية أو مشروع واضح للتغيير؟ والتساؤل الرئيسي: ماهو دور إيران في المسألة كلها، بدءاً من خلق أسباب التظاهر إلى التدخل وتوظيف المظاهرات، وصولاً إلى النتائج التي ستجنيها طهران من المظاهرات العراقية؟ لقد أثبتت التجارب أنه لفهم ما يحصل في العراق، يتوجب فهم ما يحصل في إيران أولاً، فقطع إيران للكهرباء عن محافظات الجنوب في ظل درجات حرارة تزيد على الخمسين درجة مئوية، بدعوى الديون المتراكمة، من شأنه أن يخلق رد فعل مضاد وحاد في الوقت الذي يواجه فيه العراق إشكالية تأخر تشكيل الحكومة الجديدة. فما هي الورقة التي تريد إيران لعبها الآن في العراق؟ لا أحد ينكر حجم المأساة التي تعيشها المحافظات العراقية من سوء خدمات وفساد وبطالة، ففشل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 ولّد سخطاً اجتماعياً، فلم تستطع السلطة المركزية تلبية احتياجات مواطنيها، في الوقت الذي تنشغل فيه الأحزاب المتنافسة بالمخاصمات السياسة وتقاسم الغنائم. لكن هل الحكومة العراقية الآن قادرة على توفير ما عجزت عن توفيره في الفترة السابقة؟ توقيت التظاهرات يثير أكثر التساؤلات إلحاحاً حول جدواها للمواطن العراقي، فالحكومة العراقية منتهية الولاية، وهناك ولادة عسيرة لحكومة توافقات حزبية لم تكتمل حتى الآن، والظروف الإقليمية والدولية غير مواتية، لاسيما في ظل التنافس الأميركي الروسي، علاوة على الصراعات الإقليمية (ومعظمها فيه إيران كطرف).. ما يلقي بظلاله على العراق، البلد الأكثر عرضة للاختراق السياسي والأمني في المنطقة. أما على المستوى المحلي، فالتظاهرات ستعطي فرصة للمتسلقين السياسيين ممن فشلوا في الانتخابات الماضية، لتدمير العملية السياسية المأزومة أصلاً، وبالتالي التسلق على أكتاف المتظاهرين لغايات شخصية وحزبية ضيقة. ورغم الإجماع على عدالة شعارات المحتجين، فإن استخدام التظاهرات من قبل أطراف إقليمية لحرفها عن مسارها، ربما يخدم مصالح تلك الأطراف، إذ تبدو إيران المستفيد الأكبر مما يحدث في جنوب العراق، لأسباب عدة: غطت المظاهرات العراقية مؤقتاً على الأزمة الداخلية التي يواجهها النظام الإيراني، وتوقيت مظاهرات جنوب العراق، انطلاقاً من البصرة بعد قطع الكهرباء من قبل إيران، لم يكن محض صدفة، فالعقوبات الأميركية وشيكة على إيران، والبصرة هي خزان النفط العراقي، وفي حال توقفت شركات النفط الأجنبية عن العمل فيها، فإن أسعار النفط سترتفع، ما سيؤثر على الاقتصاد العالمي.. وكل ذلك ينسجم مع تهديد الرئيس الإيراني بعرقلة صادرات النفط في المنطقة، حال منع مبيعات نفط بلاده. إيران ببساطة تريد إشعال جنوب العراق لعرقلة تصدير النفط العراقي، ودفع شركات النفط الغربية والروسية للضغط على واشنطن لعدم تطبيق العقوبات، ولفك الحصار عليها، والتوصل إلى اتفاق مشترك ليس إلا.