إن ولوج المراحل الحضارية المتقدمة له شروط ومتطلبات، لو حققها أي مجتمع فإنه يستطيع الانتقال من أسر التخلف إلى مضمار التطور والمنافسة، وسيجعله ذلك قادراً على إنتاج الطاقة الابتكارية والإبداعية المحركة نحو الدخول إلى روح الحضارة، وإلى القيام بإنجازات واسعة وفاعلة وكبيرة وسريعة. صحيح أن الجغرافيا والثروات الطبيعية والموقع الاستراتيجي.. عوامل أساسية في تحقيق أي تقدم، لكن أيضاً هناك من الدول من تغلبت على كل هذه التحديات الصعبة، وحققت بإرادتها وبالجهود الذاتية لشعبها نهضات كبيرة للغاية. وكمثال على ذلك، نذكر النماذج التي تمثلها كل من سنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا واليابان.. إلخ. ووفقاً للمؤرخ الاقتصادي ديفيد لانديس، في كتابه «الثقافة وقيم التقدم»، فقد استطاعت اليابان معرفة شروط التقدم والنهوض، حين شرعت في البناء تأسيساً على القديم الذي تحقق في عصر التوكوجاوا، واستعانت في الوقت ذاتها بخبراء وفنانين أجانب، وأرسلت أبناءها في بعثات إلى الخارج ليحملوا معهم وهم عائدين مشاهداتهم التي تنقل وسائل الأوروبيين والأميركيين وأساليبهم المتطورة. وأرسى هذا الجمع من أهل الخبرة والذكاء أسس وقواعد الاختيار الياباني على نحو يتجلى فيه الحرص والحذر، إلى جانب اعتبارات مرنة للمزايا المقارنة. ولم تبدد اليابان أي فرصة للتعلم واكتساب الخبرة، ففي أكتوبر عام 1871 سافر وفد ياباني إلى الولايات المتحدة وأوروبا، حيث زاروا المصانع وأحواض السفن ومعامل الأسلحة ومنشآت السكك الحديدية وقنوات الملاحة البحرية، وعاد الوفد بعد عامين إلى اليابان محملاً بغنائم ومكاسب معرفية وعلمية في غاية الأهمية. ويقارن المفكر الأميركي صمويل هنتجتون بين دولتي غانا وكوريا الجنوبية، موضحاً أنه برغم تشابه الاقتصاد والظروف وتقارب نصيب الفرد من الدخل القومي بين البلدين في أوائل ستينيات القرن الماضي، وأيضاً برغم تشابه المساعدات الاقتصادية الخارجية التي كان يحصل عليها كل منهما.. إلا أنه بعد ثلاثين عاماً أصبحت كوريا الجنوبية أحد نمور آسيا الاقتصادية، محتلة المرتبة الرابعة عشرة بين أكبر اقتصادات العالم، بينما ظلت غانا على ما هي عليه، ولم يتجاوز نصيب الفرد فيها من الدخل القومي حوالى خمس نظيره في كوريا الجنوبية، ويرجع هنتجتون ذلك الفارق الكبير في التنمية والتطور بين البلدين، إلى كون اليابان اهتمت بالتعليم والتنظيم والانضباط، بينما ظلت غانا خاضعة لقيم ثقافية مغايرة. وما من شك في أن العرب حالياً بحاجة إلى فهم أسباب نجاح تلك التجارب، والتي قد تساعدهم في استعادة دورهم الحضاري، وهم بحاجة إلى قوة فاعلة ومبدعة ومغيرة ومحركة، تجعلهم قادرين على الدخول إلى مضمار المنافسة العالمية. هذا مع العلم أن دينهم الإسلامي يمثل رسالة حضارية وثقافة تعايش وسلام وعلم وإرادة وقدوة وأخوة إنسانية. أما الوصفات الجاهزة فقد ثبت فشلها إلى حد كبير، خاصة بعد موت الشيوعية والاشتراكية، وظهور كثير من مساوئ الرأسمالية، فهذه الأيديولوجيات أدخلت العالم إلى مرحلة من الصراعات والضبابية والوعود الكاذبة، مما بدد طاقات كثيرة للشعوب التي عولت على مثل هذه الوصفات الأيديولوجية الجاهزة في سبيل الانتقال نحو التقدم والتطور والنهوض.