في مقال له بصحيفة «بروفايل» الروسية (23 مايو 2018) ذهب «تيومافاي بوردانغوف» مدير مركز الدراسات الأوروبية والدولية في موسكو، إلى أن العالم يعيش راهناً أجواء قريبة من أجواء حرب الثلاثين سنة التي عرفتها أوروبا بداية من 1618 وانتهت بتوقيع اتفاقيات وستفاليا التي كرست معايير النظام الدولي الحديث القائم على مبدأ احترام السيادة الوطنية للدول المستقلة. لقد نتجت عن تلك الحرب الفظيعة آثار مدمرة؛ فقدت الأقاليم الألمانية 40 بالمئة من سكانها، وتدمر ثلث المدن الألمانية بالكامل، وتمزقت الإمبراطوريات العتيقة، واستفحلت الحرب الدينية التي فرضت إخراج الدين من الشأن العمومي. ما يلاحظه بوردانغوف هو أن العالم اليوم يشهد العديد من النزاعات الحادة التي تتمحور حول الصدام بين القوى الغربية التقليدية التي لم تعد تؤمن بالقيود التي فرضتها معايير النظام الدولي الحديث والقوى الصاعدة التي تتشبث بمنطق السيادة واستقلال القرار، بما يؤذن بنمط جديد من حرب الثلاثين من شأنها أن تؤثر على فلسفة وتركيبة العلاقات الدولية مستقبلًا. الواقع أن هذا التحول الذي تحدث عنه الباحث الروسي لا يعني العودة لمنطق الصراع القطبي ببروز أقطاب متعددة متصارعة يتمحور أحدهما حول الغرب، وثانيهما على القوى الدولية الصاعدة المتركزة في المجال الآسيوي، وإنما بتعلق الأمر بأزمة نظرية واستراتيجية عميقة لمفهوم الغرب الذي بلور لقرون ثلاثة عناصر ومحددات المنظومة الدولية. المعروف أن مفهوم الغرب عرف تحولات ثلاثةً كبرى عبر التاريخ: في العصور الوسطى كان يعني العالم الكاثوليكي في مقابل الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية ويشمل اليونان القديم، وفي القرن التاسع عشر أعيدت صياغة المفهوم بحيث أصبح يغطي القوى الأوروبية وأميركا الشمالية، ويتأسس على التقليد اليوناني -الروماني القديم، وبعد الحرب العالمية الثانية تحول الغرب إلى مفهوم استراتيجي يشمل بالإضافة إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية البلدان الآسيوية التي اعتمدت اقتصاد السوق والديمقراطية التعددية وانحازت للمعسكر المناوئ للاتحاد السوفييتي. ما نلمسه راهناً هو تفكك المنظومة الغربية في جناحيها الرئيسيين (الولايات المتحدة وأوروبا) بما عكسته الخلافات الحادة التي ظهرت خلال قمتي المجموعة السباعية والحلف الأطلسي، في الوقت الذي انحسرت القيم المرجعية للنموذج الغربي أي الديمقراطية الليبرالية، التي أصبحت مهددة في ساحات عديدة بالشعبويات الصاعدة واقتصاد السوق المعولمة، التي ظهرت بوادر على كبح ديناميكيتها في مهدها الأصلي (مركز الرأسمالية العالمية في الولايات المتحدة الأميركية). هذا التراجع الذي أشرنا إليه لا ينحصر في أزمات المنظومة الغربية الداخلية، بل أيضاً في تقهقر ديناميكية توسعها وتمددها خارج نطاقها الأصلي، بحيث لم يعد من الممكن الجزم بأن النموذج الثقافي والاجتماعي الغربي هو الأفق المستقبلي الوحيد للإنسانية، بل لعله الاستثناء وليس القاعدة. ليس من همنا إفاضة القول في الأدبيات الفلسفية والاجتماعية الجديدة في الهند والصين وشرق آسيا التي بلورت فكراً نقدياً صارماً ضد المركزية الغربية، واتجهت إلى نقد المفاهيم التنويرية والتحديثية الأوروبية التي اعتقدت أنها قادرة على ضبط غابة التاريخ الكوني، وإنما حسبنا الإشارة إلى بروز مبادرات عالمية واضحة لإعادة ترتيب العلاقات الدولية، وفق مبدأ أساسي هو: مراجعة محددات العلاقات الدولية وفق حقائق العولمة الجديدة التي منحت أوراقاً محورية للقوى الإقليمية والدولية الصاعدة أصبحت تحول دون قيام مركز أحادي للعالم المندمج. هذا التوجه يبدو بارزاً في المقاربات الروسية والصينية والهندية للعلاقات الدولية الجديدة، في الوقت الذي تطمح القوى الثلاث الكبرى إلى بناء منظومة تضم بلدان «بريكس» BRICS الصاعدة من أجل تحقيق التوازن المنشود في النظام العالمي. ما تؤكد عليه اليوم المقاربات الاستراتيجية للقوى الدولية الصاعدة هو أن الغرب مسؤول عن الأحداث المريعة التي عصفت بالعالم في السنوات الأخيرة، وفي مقدمتها تمزق إقليم البلقان وحروبه الدينية والقومية وانهيار الشرق العربي بتفكك العديد من دوله واستفحال الفتنة الأهلية والخطر الإرهابي فيه، في حين تقدم هذه البلدان نفسها ضمانة للاستقرار الدولي وفق مبادئ سيادة الدول وقداسة وحدتها الوطنية. ما يتعين التنويه بِه هو الخطوات المهمة التي اتخذتها البلدان الفاعلة حالياً في النظام العربي (الإمارات والسعودية ومصر..) في توسيع دائرة شراكتها الدولية بالانفتاح على القوى الصاعدة والاستفادة من المعطيات الاستراتيجية الجديدة في تعزيز الموقع العربي في رهانات تشكل المنظومة الدولية القادمة.