يكثر الكلام عن تجديد الخطاب الديني، وفي الواقع يحتاج التجديد أولاً إلى الاقتناع بضرورته، في حين إن الاعتقاد السائد أنه لا حاجة لتجديد شيء، وكل ما هنالك مفكر هنا أو هناك يعمل على مشروعه الخاص الذي قد يختفي برحيله، أو رجل دين هنا أو هناك يعمل في التجديد على مستوى سماع الموسيقى، أو مؤسسة فقهية تعتقد أن التجديد يعني إعداد البحوث في القضايا المعاصرة، كنقل الأعضاء، مع إغلاق خزانة القضايا القديمة بالأقفال.
وهذا الموقف البارد المتكاسل يدعو للتعجب في ظلّ ما حاق بالمنطقة جرّاء عوامل عدة في مقدمتها ذلك الخطاب الذي لم يتغير منذ ألف سنة، إذ لو تأمل المرء ملياً في كثير من مفرداته، سيجده معزولاً عن عالم اليوم، ويؤدي حال تطبيقه إلى فوضى عارمة. ولنأخذ كمثال مفردة «الجهاد»، فهو بفهمه التقليدي يُظهر الدول الإسلامية في هيئة متخاذلة، ويخلق في شعوبها الشعور بالتقصير، ويوقع المسلمين في البلاد الأخرى في الحرج، فضلاً عن الوبال الذي جرّه ذلك الفهم على المسلمين أينما كانوا، خصوصاً في العقود الأخيرة.
ويقسّم الخطاب التقليدي «الجهاد» إلى دفع وطلب، ويحاول بعضهم التوفيق بين «جهاد الدفع» والدفاع عن الأوطان، رغم أن الدفاع عن الأوطان شأنٌ تنفرد به الدول، وتتصدى له حصراً الجيوش، والتي قد تدخل في سبيله في تحالفات مع دول غير إسلامية. وكل هذا وغيره من فروقات بين الموضوعين لا يتوافق مع المفهوم التقليدي للجهاد بنوعيه، ذلك أنه تبلور في زمن لم تكن فكرة الدول والجيوش الوطنية مطروحة خلاله، وكان أهل ذلك الزمن يقيسون العلاقات بين الأمم بمسطرة دينية، بينما عالم اليوم لا يعترف ب«نحن» و«هم»، وإنما بالمصالح والقيم المشتركة، وجلب تلك المسطرة القديمة والقياس بها اليوم كان أحد عوامل ظهور تنظيم كـ«القاعدة». والأمر أثقل على المسلمين في بلاد غير إسلامية، إذ من يقرر الحرب دفاعاً عن الوطن حكومةٌ لا ولاية لها عليهم وفق الفهم التقليدي أيضاً، ما يوقعهم في البلبلة، ويوضعهم في موضع الريبة في انتمائهم لدولهم.
وهكذا مع «جهاد الطلب،، فوفق فهمه التقليدي يغزو المسلمون بلاد "الكفار"، وذلك لدعوة أهلها للإسلام، فإن أبوا وكانوا أهل كتاب، فعليهم الجزية، فإن كانوا غير ذلك، فالقتل أو الإسلام. ولا يعني عدم وجود جهاد طلب في زماننا هذا أن مفهومه لا يحتاج إلى تجديد، ذلك أن الفكرة موقوفة لعدم القدرة، أي أن النيّة أو الأمنية تعتمل في الصدور باستمرار، وكل جيل يدرك عجزه، يلوم نفسه، ثم يودع نيّته وأمنيته في صدر الجيل الذي يليه.. وهكذا الخطاب التقليدي يجعل المسلم متحفّزاً للغزو، يتعصّر ألماً لعدم القدرة عليه، ويحلم بيوم اكتساح العالم. مع ملاحظة أن "القدرة" مفهوم نسبي، ومتى ما أقنع مخبول بعض رفاقه بتحققها، فإنهم سيخرجون لإبادة البشرية بالسيوف والمنجنيق. وبعد هذا، وأكثر من هذا مع فهم تقليدي لمفردات أخرى مربكة لا إعراب لها في زماننا هذا، ألا يستحق الأمر إعادة قراءة وتجديدا فعلاً؟!