تمثل الطاقة عصب الحياة الحديثة، والمحرك الأهم للتطور؛ حيث ارتبط الانتقال من مرحلة حضارية إلى أخرى، بشكل أساسي، باكتشاف مصادر جديدة للطاقة. وفي ضوء ما يتم ضخه عبر العالم من استثمارات ضخمة في عمليات البحث والتطوير والابتكار لإيجاد مصادر طاقة بديلة أكثر كفاءةً وأقل تلويثاً للبيئة، وبالنظر إلى ما تتمتع به دولة الإمارات العربية المتحدة من أهمية كبيرة، بصفتها لاعباً مهماً في أسواق الطاقة العالمية، يصبح من الضروري أن نسأل أنفسنا: إلى أين تتجه أسواق الطاقة العالمية في المستقبل؟ وما الذي يمكن أن نفعله لكي نحافظ على مكانتنا في هذه الأسواق، ونعزز مسيرتنا التنموية المستقبلية؟
وبعيداً عن الاستغراق في الحديث عن التطور التاريخي لمصادر الطاقة وتأثيراتها، يمكن القول إن «ثورة الطاقة» العالمية بدأت مع اكتشاف الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز)، الذي مهَّد لدخول العالم عصر الثورة الصناعية؛ حيث كان الفحم في البداية هو المصدر الرئيسي المولِّد للطاقة اللازمة لتشغيل الآلات والمحركات البخارية التي تم اختراعها في القرن الثامن عشر، وعندما تم اكتشاف النفط تغيرت معالم خريطة الطاقة العالمية بصورة جذرية، حيث أحدث ثورة هائلة في عمليات التصنيع والإنتاج والاستهلاك والتنمية، ووصل ارتباط الاقتصاد العالمي الحديث بالنفط إلى حد وصف العصر الحالي بـ«عصر النفط»، والحديث عن دخول العالم ما تُسمى مرحلة «الإدمان النفطي». وبالتوازي مع اكتشاف النفط، تم كذلك اكتشاف الغاز الطبيعي واستخدامه مصدراً للطاقة، قبل أن يشهد في العقود القليلة الماضية تطورات مهمة ليصبح جزءاً مهماً من مزيج الطاقة العالمي.
ما بعد «الصدمة النفطية»
وقد شكلت هذه المصادر الثلاثة من الوقود الأحفوري «النفط والغاز والفحم»، المكون الرئيسي لمزيج الطاقة العالمي حتى يومنا هذا، على الرغم من التراجع النسبي الذي شهدته في العقود القليلة الماضية، وانخفاض نسبة مساهمتها من نحو 95% في عام 1970 إلى 85% في عام 2016؛ وهو التراجع الذي بدأ مع التوجه العالمي المتزايد إلى تطوير مصادر طاقة بديلة منذ الصدمة النفطية العالمية الأولى في سبعينيات القرن الماضي؛ وتحديداً في حرب عام 1973 بين العرب وإسرائيل، عندما تم قطع النفط العربي عن الدول الداعمة لإسرائيل في الحرب. وتعزَّز هذا التوجه مع تزايد الاهتمام بالبيئة، والبحث عن مصادر نظيفة للطاقة، وصدور تعهدات عالمية بالحد من التلوث وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، كما حدث في اتفاقية باريس للمناخ التي تم التوصل إليها في أواخر عام 2015.

وقد تنامى الحديث في السنوات القليلة الماضية عن وصول العالم إلى مرحلة «ذروة الوقود الأحفوري»، وعن اقتراب «عصر النفط» من نهايته، وعزز من هذا الحديث مجموعة من التغيرات المهمة التي شهدتها أسواق الطاقة العالمية، والتي تشير في مجملها إلى أننا ربما نكون قد وصلنا بالفعل إلى مرحلة «ذروة الوقود الأحفوري» التي ستبدأ بعدها الطاقة الأحفورية، ولاسيما النفط والفحم، في التراجع التدريجي عن وضعها المهيمن في مزيج الطاقة العالمي، والدخول من ثم في عصر جديد للطاقة تقوده التكنولوجيا الحديثة. وأول هذه التغيرات، وربما أهمها، يتمثل في الاستثمارات العالمية الضخمة التي يتم ضخها لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية، حيث يشير تقرير نشرته وكالة بلومبيرج في يوليو 2016 إلى أن مصادر الطاقة المتجددة ستجذب بحلول عام 2040 استثمارات تصل إلى 7.8 تريليون دولار. كما يتوقع أن يشهد العالم طفرات مهمة في هذا المجال مع التطور المتسارع في التقنيات الحديثة التي تسهم في زيادة القدرة التوليدية لمصادر الطاقة المتجددة، وتخفيض تكلفتها، فوفقاً لتقرير «آفاق الطاقة العالمية» الصادر عن وكالة الطاقة الدولية في عام 2017؛ أدى الانتشار السريع في استخدام تقنيات الطاقة النظيفة إلى تخفيض تكاليف المنشآت الجديدة للطاقة الشمسية بنسبة 70%، وتكاليف طاقة الرياح بنسبة 25%، وتكاليف البطاريات بنسبة 40%، كما يشير التقرير إلى أنه بحلول عام 2040 ستستحوذ مصادر الطاقة المتجددة على ثلثي الاستثمارات العالمية في محطات توليد الكهرباء، وستصبح أقل المصادر المستخدمة تكلفة في محطات التوليد الجديدة في كثير من الدول، فيما يشير تقرير «آفاق الطاقة العالمية» عام 2018 إلى أن قطاع الطاقة المتجددة، سيقود النمو في مجال توليد الطاقة الكهربائية بنسبة قد تصل إلى 64% في عام 2050.

ثورة النفط الصخري
ويتمثل التطور الثاني في «ثورة» النفط والغاز الصخريين، فقد مكنت تقنيات إنتاج النفط والغاز الصخريين، بصفة خاصة التكسير الهيدروليكي والحفر الأفقي، منتجين جدداً، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية، من الوصول إلى كميات متزايدة من النفط في الصخور. وهذا التطور يؤثر في أسواق الطاقة العالمية من زاويتين، الأولى زيادة المعروض من النفط الخام، ومن ثم دفع أسعاره العالمية إلى الانخفاض، ولاسيما مع التوصل إلى تقنيات مبتكرة تخفض تكاليف إنتاج هذا النوع من النفط والغاز، والثانية أنه يغير من خريطة القوى المهيمنة على أسواق الطاقة العالمية، فالولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، تحولت من دولة مستوردة للغاز إلى دولة مصدرة له بفضل إنتاجها المتزايد من الغاز الصخري، ويتوقع أن تصبح مُصدرة صافية للنفط خلال العقد الثاني من القرن الحالي.
ويتمثل التطور الثالث في زيادة الاعتماد العالمي على الكهرباء في مجال الطاقة بدلاً من الوقود الأحفوري؛ حيث يؤكد تقرير وكالة الطاقة الدولية لعام 2017، السابق الإشارة إليه، أن المستقبل في قطاع الطاقة سيكون للكهرباء التي ستشكل 40% من الارتفاع في الاستهلاك النهائي بحلول عام 2040.

طفرة السيارات الكهربائية
ومن التطورات المهمة التي يشهدها العالم في هذا المجال، التوسع في الإنفاق على إنتاج السيارات الكهربائية والاستثمار فيها؛ حيث توجه شركات صناعات السيارات استثمارات ضخمة لتطوير هذا النوع من السيارات، وتخفيض تكلفة إنتاجها، ورفع كفاءتها. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يزداد عدد السيارات الكهربائية في العالم من نحو مليوني سيارة حالياً إلى 280 مليون سيارة بحلول عام 2040، فيما تتوقع وكالة بلومبيرج أن تستحوذ السيارات الكهربائية على 54% من مبيعات السيارات، و33% من إجمالي عدد السيارات في العالم بحلول العام نفسه. كما قدرت «أوبك» في عام 2015 مبيعات السيارات الكهربائية في العالم في عام 2040 بنحو 46 مليون سيارة، لكنها عادت في العام التالي مباشرة (2016) لتعدل توقعاتها بشكل كبير جداً إلى 266 مليوناً، وهذا يعكس التغيرات المتسارعة في صناعة السيارات الكهربائية التي يُتوقع أن تزيد سرعتها خلال السنوات المقبلة، ولاسيما مع الانخفاض المستمر في تكلفة إنتاج هذه السيارات (انخفضت تكلفتها بنسبة 70% في عام 2016 مقارنة بمستواها عام 2008).
ويدخل في هذا السياق كذلك التطورات المهمة التي يشهدها العالم في مجال صناعة البطاريات المخزِّنة للطاقة والقابلة لإعادة الشحن، وتنامي قدراتها التخزينية بصورة كبيرة، فمن شأن تطور كهذا أن يدفع صناعة السيارات الكهربائية بصورة أكبر مما هو متوقع، وقد يشمل ذلك مجالات وصناعات أخرى يمكن أن تعتمد على الكهرباء بدلاً من الوقود الأحفوري مستقبلاً إذا تم إنتاج بطاريات قادرة على تخزين كميات كبيرة من الطاقة، والتخلص من المشكلات الحالية التي تعانيها صناعة البطاريات، ولاسيما ما يتعلق بالقدرة والسعة الكهربائية وطول عمرها إلى جانب الكفاءة والأداء ومستوى الأمان.
ما بعد عصر النفط
ولا يعني ما سبق أن الوقود الأحفوري، النفط والغاز بصورة خاصة، سوف تتلاشى أهميته في مزيج الطاقة العالمي في المستقبل المنظور؛ أي على المديين القريب والمتوسط؛ فأكثر التقديرات تشاؤماً تشير إلى أن مساهمة الوقود الأحفوري في مزيج الطاقة عام 2050 لن تقل عن 50%، كما أن هناك أموراً عدة يجب أخذها في الاعتبار عند الحديث عن نهاية «عصر النفط» وعصر «الوقود الأحفوري» عامة، أولها أنه برغم التوسع في إنتاج مصادر الطاقة البديلة؛ فإن الطلب العالمي على الطاقة سيزداد مع مرور الوقت؛ نتيجة زيادة معدلات التحضر والتصنيع وعدد السكان، وبالتالي ستكون هناك حاجة دائمة إلى مزيد من الطاقة من مصادرها التقليدية والمتجددة على السواء. وثانيها أن مصادر الطاقة المتجددة لا تزال تواجه مشكلات تقنية وعملية كثيرة تجعل المراهنة عليها وحدها في تلبية الاحتياجات المتزايدة من الطاقة في العالم أمراً صعباً، فعلى سبيل المثال، برغم الاستثمارات التي تم ضخها حتى الآن في هذا القطاع، فإن نسبة مساهمته، باستثناء الطاقة الكهرومائية، في إنتاج الكهرباء بالعالم لم تتجاوز 8%، في حين لم تزِد نسبة مساهمة الطاقة الشمسية التي تستحوذ على الاهتمام الأكبر في هذا القطاع، في إنتاج الكهرباء بالعالم على 2% وفق بعض الإحصائيات. الأمر الثالث أن التطور في صناعة السيارات الكهربائية، برغم تأثيراته السلبية المهمة في أسعار النفط؛ فإن خطره ليس كارثياً، فإذا كان قطاع النقل يستحوذ على نحو 60% من استهلاك النفط؛ فإن معدل استهلاك السيارات في حدود 20% فقط، وهذا معناه أنه في حال تراجع استهلاك السيارات للنفط بفضل تطور السيارات الكهربائية سوف تظل قطاعات النقل الأخرى، مثل السفن والطائرات والقطارات وغيرها، فضلاً عن الصناعات البتروكيميائية، تعتمد بشكل أساسي على النفط بالنظر إلى صعوبة اعتمادها على الكهرباء. وتذهب شركة «BP» النفطية إلى أن معدل الزيادة في السيارات الكهربائية في عام 2035 لن يتجاوز 10% من معدل الزيادة في مجمل السيارات في العالم. الأمر الرابع أن التقديرات الحالية والمستقبلية تشير إلى أن الاعتماد العالمي على الغاز الطبيعي، وهو أحد مصادر الوقود الأحفوري، سيزداد بشكل مستمر في المستقبل بصفته أحد أكثر مصادر الوقود الأحفوري نظافة وعدم تلويث للبيئة، ولاسيما في ضوء التوسع الكبير حالياً في الإنتاج العالمي من الغاز، سواء الطبيعي (الاكتشافات الجديدة في شرق المتوسط، ومشروعات التوسع في الإنتاج في دول مثل أستراليا وروسيا)، أو الصخري (ولاسيما في الولايات المتحدة الأميركية).
ويعني ذلك أنه وفقاً للمعطيات الحالية؛ فإن الوقود الأحفوري، ولاسيما النفط والغاز، سيستمر يشكل عنصراً مهماً في مزيج الطاقة العالمي حتى عام 2050 على الأقل؛ بيد أن ذلك لا يعني الاطمئنان إلى هذا الاستنتاج تماماً؛ فالأمور قد تتغير جذرياً بين لحظة وأخرى، ففي ظل التطور التكنولوجي المتسارع والسباق العالمي المستعر على تطوير مصادر طاقة بديلة لا يمكننا استبعاد حدوث طفرة تقنية، أو التوصل إلى اكتشاف أو ابتكار ما يقلب موازين أسواق الطاقة العالمية رأساً على عقب، مثل النجاح في ابتكار بطاريات تخزِّن كهرباء بصورة آمنة وطويلة الأجل وبقدرات كبيرة تنال بشكل كبير من أهمية استخدام النفط والغاز في مجال وسائل النقل وغيره من المجالات، أو تطوير تقنيات حديثة تجعل استخدام مصادر الطاقة المتجدِّدة أكثر كفاءة وفاعلية، أو أي إنجاز آخر يغيِّر المعادلات القائمة.

سبق إماراتي في الطاقة المتجددة
وضمن هذا السياق العام، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة من الدول الواعية، منذ وقت مبكر، لطبيعة التغيرات الجارية في هذا المجال؛ ولذلك فقد كانت سبَّاقة إلى الاستثمار بقوة في مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، وحققت تقدماً كبيراً في هذا المسار، ولاسيما منذ تأسيس «مصدر» في عام 2006 كمدينة مستدامة خالية من الانبعاثات الكربونية، واستضافة الدولة لمقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (أيرينا) التي أسِّست في يناير 2009، وتدشين الكثير من المشروعات الطموحة لإنتاج الطاقة الشمسية مثل مشروع «شمس 1» في أبوظبي، و«مجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية»، كما دخلت الدولة مجال إنتاج الطاقة النووية من خلال برنامجها النووي السلمي الطموح لبناء أربعة مفاعلات نووية في موقع براكة غرب إمارة أبوظبي تنتج 1400 ميجاوات، وهي المحطات التي يتوقع أن يبدأ الإنتاج فيها خلال عام 2019؛ لتكون دولة الإمارات العربية المتحدة الدولة العربية الأولى التي تستخدم الطاقة النووية السلمية. كما أقرت الدولة الكثير من الاستراتيجيات الطموحة للاستجابة للتغيرات الحادثة في مجال الطاقة مثل «استراتيجية الإمارات للطاقة 2050» التي أعلنها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في يناير 2017، والتي تستهدف رفع مساهمة الطاقة النظيفة في إجمالي مزيج الطاقة المنتجة في الدولة إلى 50% بحلول عام 2050، و«استراتيجية الإمارات للتنمية الخضراء» التي تم إطلاقها في عام 2012، وغيرها من المشروعات والخطط الطموحة.
وتنبع أهمية كل ما سبق من عمق الفلسفة التي تحكمه وتقف وراءه؛ حيث تؤمن دولة الإمارات العربية المتحدة بأن النفط ومصادر الوقود الأحفوري في طريقها إلى النهاية، وأنه لا بد من الاستعداد مبكراً لمرحلة ما بعد النفط عبر الدخول في السباق العالمي على مصادر الطاقة الجديدة؛ حتى تظل الدولة لاعباً أساسياً في أسواق الطاقة العالمية، تلك الفلسفة التي عبر عنها بوضوح وشفافية وصدق صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، في كلمته التاريخية في القمة الحكومية في دبي عام 2015، حيث قال سموه: «سيأتي وقت بعد خمسين سنة ونحن نحمل آخر برميل نفط للتصدير، وسيأتي السؤال: هل سنحزن وقتها؟ إذا كان الاستثمار اليوم في مواردنا البشرية صحيحاً؛ فأنا أراهن أننا سنحتفل بتلك اللحظة».

أ.د جمال سند السويدي*

*كاتب إماراتي