لقد أصبح أسلوب الرئيس الأميركي «دونالد ترامب» غير التقليدي في الحكم معروفاً بما فيه الكفاية، ومع ذلك لا يمكن على غرار التحليلات العربية السائدة تفسير قراراته الرئيسية التي أخذها منذ وصوله للسلطة بمجرد العوامل الشخصية والنزوات الفردية. سواء تعلق الأمر بانسحاب الولايات المتحدة الأميركية من العديد من الاتفاقات الدولية التي وقعتها سابقاً أو محاولتها إعادة ترتيب حركيّة التجارة الدولية من منظور مصالحها الاقتصادية على حساب تحالفها التقليدي مع بلدان أوروبا وأميركا الشمالية، أو تعلق الأمر بالموقف من المؤسسات الدولية وبإدارة الملفات العالمية الكبرى، لا يشكل ترامب لحظة قطيعة جذرية في التقليد السياسي الأميركي، ولا يمكن عزل مواقفه وتصرفاته عن التحديات والإشكالات الراهنة للنظام الدولي. قد لا يكون من السهل تصنيف سياسة ترامب الخارجية ضمن القوالب العادية للدبلوماسية الأميركية التي تتوزع وفق المحللين والدارسين إلى اتجاهين كبيرين: انكفائي انعزالي وأممي ينزع للتدخل الخارجي، مع التمييز داخل كل واحد من الاتجاهين بين المسلك الواقعي المتمحور حول احتساب موازين القوة والمصالح التجارية، والمسلك المثالي الرسالي الذي يربط بين المصالح القومية الأميركية وتصدير المثل الأخلاقية والأيديولوجية التي قام عليها النموذج الأميركي إلى بقية العالم (مقاربة روزفلت - ولسون).
وإذا كان بعض الباحثين يميل إلى تصنيف ترامب ضمن اتجاه ثالث مثله تاريخياً الرئيس «أندرو جاكسون» الذي حكم الولايات المتحدة من 1829 إلى 1837، وهو اتجاه قومي شعبوي يرتكز على عنصر القوة العسكرية، إلا أن نهج ترامب في الحقيقة لا يخرج عن ثوابت النموذج الأميركي الذي يربط عضوياً بين عناصر ثلاثة محورية، هي المصالح القومية الحيوية والتفوق الاقتصادي والعسكري والرسالة الأخلاقية الكونية.
صحيح أن الجانب الأخلاقي الأيديولوجي يبدو خافتاً في الخطاب السياسي الأميركي الحالي، إلا أنما يميز نهج ترامب هو تغليب المصالح التجارية والأمنية القومية على اعتبارات الرسالة الأخلاقية التي تظل حاضرة ولو مع تبدل ملحوظ في الخلفيات الفكرية والعقدية (من الليبرالية الكونية إلى القومية الشعبوية المحافظة). لقد بين الباحث السياسي الفرنسي (من أصل جزائري ) «زكي العايدي» أن التحولات الأخيرة التي عرفتها الولايات المتحدة في عهد ترامب لا يمكن فصلها عن الأزمة العميقة التي يعرفها منذ سنوات مفهوم «القطبية التعددية» الذي أصبح الأفق الاستراتيجي للعلاقات الدولية بعد الحرب الباردة.
ما ظهر من تتبع الأزمات العالمية في السنوات الماضية هو أن تعدد اللاعبين الدوليين لا يعني بالضرورة الإدارة التعددية للنظام الدولي، بحيث أصبح من الممتنع الوصول إلى وضع يتم فيه الإجماع عليه و يضمن مصالح الأطراف الفاعلة العديدة بقدر ما أنه لا توجد قوة مهيمنة قادرة على فرض رؤيتها ومصالحها على غيرها نتيجة لتوزع عناصر القوة العسكرية والاستراتيجية بين جهات عديدة متضاربة المصالح.
هذه الحالة هي التي تفشل شلل المؤسسات الدولية وعجزها عن إدارة الملفات العالقة، سواء تعلق الأمر بقضايا الأمن والسلم كما هو الشأن في النزاعات الشرق أوسطية الراهنة (الموضوع الفلسطيني والموضوع السوري مثلاً) أو بقضايا التجارة العالمية.
وعلى عكس ما يظن عادة، فإن ترامب ليس معادياً لفكرة الشراكة الدولية، لكنه يريد إخضاعها للمصالح الحيوية الأميركية لو على حساب التزامات واشنطن تجاه حلفائها التقليديين، بما يعني إدخال تحويرين بارزين على محددات هذه الشراكة، هما حسب "العايدي: استبدال منطق القواعد التنظيمية للشراكة الدولية بمنطق النتائج العملية العينية واستبدال معايير التحالف السياسي بمعايير الحماية مقابل المنافع والمصالح والامتيازات (الراجعة للولايات المتحدة ).
من الخلف أذن قراءة المعادلة الدولية الراهنة من منظور الجدل حول الأحادية القطبية (التي ليست هي الخيار الذي يتبناه ترامب) والتعددية القطبية التي إن كانت حقيقة بمعنى تعدد الأطراف الفاعلة في المسرح الدولي، إلا أنها لا تعني تشكل أقطاب استراتيجية عالمية تتنازع موازين القوة والفاعلية. وما نعيشه راهناً هو ما عبر عنه "العايدي" بازدواجية الثنائية القطبية في مستويين متمايزين: القطبية الاستراتيجية التي تبرز في الصراع الروسي - الأميركي المتمحور حالياً حول الشرق الأوسط والجناح الشرقي للحلف الأطلسي والقطبية الاقتصادية التي تبرز في الصراع الأميركي - الصيني من أجل التحكم في حركة التجارة الدولية، وأن تداخل هاتين الحركيتين هو الذي يفسر أزمة التعددية القطبية العالمية.