بدأت الحرب الأميركية في أفغانستان في عام 2001 (بعد جريمة 11 سبتمبر مباشرة من ذلك العام)، وهي مستمرة حتى اليوم. تبلغ تكاليف الحرب 45 مليار دولار سنوياً. وقد ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الأفغان والآلاف من الجنود الأميركيين وحلفائهم من دول حلف شمال الأطلسي.
حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب استخدام أقصى أنواع القوة لإنهاء الحرب. فأسقط ولأول مرة في التاريخ أكبر قنبلة غير نووية في منطقة يعتقد أنها معقل «طالبان». قتل في تلك العملية العشرات من «طالبان، وربما المئات من المدنيين. ولكن الوضع لم يتغير. فقد ازدادت"طالبان" تصلباً. وازداد التعاطف الشعبي معها كردّ فعل على سقوط الضحايا المدنيين. هنا أدرك الرئيس ترامب أنه لا بد مما ليس منه بدّ. وهو الحلّ السياسي. ولكن"طالبان" ليست جبهة واحدة، إنها"طالبانيات"، ثم إن الحوار معها حول الحل يقتضي الإقرار بمشاركتها بالسلطة. وهو نوع من الهزمية المعنوية للولايات المتحدة، التي طالما اعتبرت"طالبان"منظمة إرهابية. إذا انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان وتخلت عن التزاماتها بحماية النظام التابع لها، فإن هذا النظام لا يستطيع أن يصمد سوى أيام معدودة. الرئيس الأميركي يعرف ذلك وتعرفه أيضاً قيادة حلف شمال الأطلسي، ثم إن الدول المجاورة والمتاخمة لأفغانستان سوف تجد في الانسحاب الأميركي فرصة سانحة للتدخل وملء الفراغ، فكما في الطبيعة، كذلك في السياسة. لا يوجد شيء اسمه فراغ. وهذه الدول هي باكستان التي تحتفظ بفصيل قوي ومتشدد من"طالبان". وإيران التي تراهن على ولاء قبائل الهزازرة الشيعية. والهند التي تلعب بنجاح حتى الآن ورقة الصراع الباكستاني – الأفغاني. والصين التي يحتاج الجميع الى مساعداتها الاقتصادية. وروسيا التي تنتظر الفرصة المؤاتية للانتقام مما تعتبره مؤامرة أميركية أخرجتها بالقوة من أفغانستان في عام 1979.
من هنا لا تستطيع واشنطن أن تستمر إلى ما لا نهاية في حرب هي أطول حرب تورطت فيها على مدى تاريخها. ولا تستطيع أن تستمر في تحمّل النزيف البشري والمالي المترتب عليها. وفي الوقت ذاته لا تستطيع أن تترك وراءها فراغاً محلياً تملأه طالبان. وفراغاً سياسياً إقليمياً تملأه دول الجوار.
لقد حدث مثل ذلك من قبل في فيتنام. فالانسحاب الأميركي المذل من سايغون أدى الى تمكين قوات الفيتكونغ (طالبان فيتنام) من السيطرة الكاملة والمطلقة على الحكم. وألقى فيتنام في حضن خصوم الولايات المتحدة في شرق آسيا وفي مقدمتهم الكرملين.
من أجل ذلك تجد الولايات المتحدة نفسها أمام أمرين أحلاهما مرّ. إما الانسحاب من أفغانستان وإلقائها لقمة سائغة في فم"طالبان"، وفي أفواه الدول المجاورة التي تتحين الفرص للتمدد ولبسط النفوذ، (وفي ذلك هزيمة معنوية مزدوجة للسياسة الأميركية قد تضطرها إلى دفع ثمنها في مناطق عديدة أخرى من العالم). وأما أن تخضع لشروط"طالبان" بالتفاوض، وفي مقدمة هذه الشروط تخلي الإدارة الأميركية عن حلفائها المحليين الذين تولوا السلطة باسمها طوال سنوات الحرب السبع عشرة الماضية.
تعرف الإدارة الأميركية جيداً أن أفغانستان تقع بين فكي كماشة: إيران من الغرب، وباكستان من الشرق. وتعرف أنه اذا كانت علاقاتها مع الأولى سيئة جداً، فان علاقاتها مع الثانية ليست حسنة على الإطلاق، إنها علاقات شديدة التوتر، والثقة مهزوزة وتكاد تكون مفقودة.
كذلك تعرف الإدارة الأميركية أن استمرار وجودها العسكري في أفغانستان يعني استمرار الحرب بكل تكاليفها البشرية والمادية. وأن انسحابها لا يعني بالضرورة تحقيق السلام بكل ما يعنيه ذلك من احتمال تفجر القنابل السياسية الموقوتة في حقل العلاقات الإقليمية والدولية، ثم إن الانسحاب سيدفع ثمنه طرفان أميركيان أساسيان في الأزمة الأفغانية الحالية هما: الهيبة الأميركية والثقة بها على المسرح الدولي.
وفي الحسابات الأخيرة إذا اتسم الانسحاب الأميركي بالهزيمة، فلن تكون الولايات المتحدة أول دولة كبرى تصاب بها في أفغانستان. فقد سبقها إلى ذلك الاتحاد السوفييتي. وسبقت الاثنين الامبراطورية البريطانية. أليس غريباً أن يتمكن شعب معظمه من الفقراء المعدمين من هزيمة ثلاث إمبراطوريات كبرى؟!