يذهب «بيت فرون» وآخرون معه في كتابهم «الرائحة.. أبجدية الإغواء الغامضة» إلى القول: «إن الحيوان ـ أي حيوان ـ يتجنب الروائح النتنة وما يرتبط بها من أشياء خطرة، وأنه يتقفّى أثر الروائح الزكية، ولا يبرح الأماكن ذات الروائح المألوفة، إلا إن اضطر إلى ذلك اضطراراً، ولا تبدأ آليات السلوك هذه في العمل، بالطبع، إلاَّ حين ترتبط انطباعات الشم بخبرات راسخة في الذاكرة على نحو أو آخر..» ( ترجمة د. محمد صديق جوهر، وإصدار كلمة ـ دائرة أبوظبي للثقافة والسياحة).
ذاك عن الحيوان، فماذا على الإنسان وعلاقته بالرائحة وخاصة روائح الأوطان؟ يبدو من التجارب الراهنة للبشر أننا نتجه إلى وضع خطير ليس فقط لعدم التمييز بين الروائح، وإنما لانعدام حاسة الشم تماماً، والحديث هنا منصب بالأساس على المعاني: الروحية والمبدئية والقيمية للأوطان، وليس المعنى المادي لها من حيث هي فضاء للوجود وللعيش، خاصة في غالبية دولنا العربية، حيث الإرهاب والفساد والظلم والقهر، وغيرها من مظاهر التدمير الذاتي والجماعي للأوطان نتيجة غياب رائحة الانتماء، وفي حالات الأمان كما في بعض الدول العربية ـ لقلتها ـ لا تشعر حين تزورها بأي رائحة تميز المكان وأهله.
سيرد الرافضون لأي دعوة عربية لعودة حاسة الشم من أجل استنشاق رائحة الأوطان، أن هناك ثلاثة عوامل تحول دون ذلك، أولها: انتهاء الوجود العربي على المستوى الجمعي سياسياً، فبأسنا بيننا شديد، وأعمالنا خالية من أي طعم أو لون وجودي، وثانيها: أن الأوطان العربية في غالبيتها بيئات منفرة لأن روائحها كريهة من الفساد الذي عم البر والبحر بما صنعته أيدينا، وكذلك لم تعد معنية ببقاء السكان ورحيلهم،، وثالثها: الاندماج الكلي ـ طوعاً أو كرها ـ في المواطنة العالمية، وما تبع ذلك من نبذ للمشاعر الوطنية والثقافة القومية، والخضوع التام لشروط العولمة.
العوامل السابقة، قد تكون مقبولة لفترة من الزمن، وهي أصلا مؤسسة على حال الضعف العربية الحالية، ولكنها مفروضة من الناحية العملية من خلال ثلاثة مستويات، أولها: المستوى الوجداني، حيث يهزنا ـ رغم جلد الذات يومياً ـ التعبير عن البعدين القومي لرائحتنا المميزة، لحضور الأوطان داخلنا، ومن الأدلة عن ذلك عودة نشيد«بلاد العرب أوطاني» (من كلمات فخري البارودي، وتلحين الأخوان فليفل).
وثانيهما: المستوى الوطني، من حيث إنه ليس نقيضاً بأي حال من الأحوال للقومية العربية، ورائحته المميزة، التي تجذبنا إليه حباً لأنها من الإيمان، هي جزء من رائحة العروبة، حتى أنه كلما أنشد شاعر أو تغنى مطرب بحب الوطن حرك مشاعرنا جميعاً على النحو الذي يأتي متدفقاً حين نستمع إلى أغنية «ريحة البلاد» كلمات وتلحين وغناء محمد الجمّوسي، حيث يحس أي عربي أنها تعنيه، وخاصة من يهتز طرباً للغناء المصري، مع أن الجمّوسي تونسي من صفاقس، ولكنه أثرى العالم العربي بأغانيه وبألحانه، ولم يسأل المستمعون يوماً من أي بلد صاحب هذه الأغنية.
المستوى الثالث، الوعي بدور الوطن في ظل غياب الدور القومي للأمة، وأحسب أن هذا ما تقوم به الإمارات في الوقت الحالي، حيث تفتخر الإمارات بقوة الجبهة الداخلية، من خلال رائحة الوطن الزكية والمميزة، التي وصل شذاها إلى كل دول العالم فانجذب إليها، وما إعفاء الإماراتيين من التأشيرة وتسهيل إجراءات دخولهم لكثير من دول العالم، وكذلك هجرة جنسيَّات مختلفة إلى الإمارات إلا دليلاً عن تأثير رائحتها.. تلك إذن رائحة الوطن حين تنبع من وعي قيادي حكيم، وطريق استعادة روائح الأوطان العربية يبدأ من هنا.