كانت إدلب محافظة المدن المنسية التي طواها التاريخ، بعد أن تعرضت للدمار على مدى قرون، وهي أغنى مناطق سوريا بالآثار التي يزيد عدد مواقعها الشهيرة على خمسمائة موقع، كثير منها مسجل في لائحة التراث العالمي، وبعضها كشف للإنسانية حضارات كانت مدفونة تحت ترابها الخصب، مثل إيبلا (تل مرديخ) الذي غير معرفة الإنسانية بتاريخ مغيب لدولة كبرى من منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، بسطت نفوذها على هضبة الأناضول حتى جنوب سيناء ومن وداي الفرات إلى شاطئ المتوسط، وهي أقدم من الإمبراطورية الآكادية، والمفارقة أن هذه المحافظة تخرج اليوم من هوة النسيان، لتصير موضع اهتمام دولي، لأنها قيد التعرض لدمار جديد بعد مرور أربعة آلاف عام على الدمار الأول الذي قام به نارام سين الآكادي الذي أحرق القصر الملكي في إيبلا، ودفن تلك الحضارة العريقة، واليوم تستعد روسيا وإيران والنظام السوري لإشعال حريق آخر بهدف استعادة تلك المنطقة التي ابتليت بوجود تنظيمات متطرفة اختطفت ثورة الحرية والكرامة وحاربت «الجيش الحر»، على نحو يواكب ما فعله تنظيم «داعش»، الذي كان ذريعة لقيام تحالف دولي لمحاربة الإرهاب، وكانت النتيجة أن الشعب هو الذي دفع الأثمان الباهظة، فقد تم قتل مئات الآلاف وتهجير وتشريد ملايين السكان.
ويبدو أن المجتمع الدولي الذي صمت عن مجازر الغوطة، ولم يتخذ موقفاً أخلاقياً أو قانونياً حازماً بعد الاستخدام المتكرر للكيماوي بدأ يشعر بخطر إمكانية استخدام الكيماوي في إدلب، والتصريحات والتسريبات الراهنة حول هذا الموضع قابلة لتفسيرين، أحدهما تهيئة لاتهام المعارضة باستخدام الكيماوي، وثانيها إثارة الملف من جديد ليكون تهيئة لاستكمال الملف الراهن والجاهز للإحالة إلى الجنائية الدولية مع اقتراب موعد الاستحقاقات الأخيرة التي يكشف عنها الإصرار الدولي على أن تكون جنيف والقرار 2254 محطة الحل النهائي.
ومع تحذيرات الأمم المتحدة من احتمال أن تواجه تركيا (ومن بعدها أوروبا) موجة نزوح جديدة قد تتجاوز 800 ألف إنسان، يصر الأميركان على تكرار تصريحاتهم بالحرص على أمن السكان، وعلى التفريق بين المعارضة المعتدلة القابلة بالحل السياسي، وبين المتطرفين، ويبدو أن الدول التي جاء منها المتطرفون رفضت عودتهم إلى بلادهم، وهي تفضل موتهم في إدلب على عودتهم ومحاكمتهم التي قد تكشف من الفضائح ما لاتريد كشفه، ومع أن بعض الدول المجاورة بذلت جهوداً لتفكيك تلك التنظيمات المصنفة إرهابية، إلا أن نتائج هذه الجهود لم تظهر إلى الآن، ربما بسبب الرفض الدولي لاستيعاب قادة وعناصر هذه التنظيمات وهم على الغالب من خارج سوريا، فأما المحليون من أبناء سوريا، فالحل بسيط لمشكلتهم، لأنهم على الغالب غير مؤدلجين، وإنما قادتهم ظروف الحرب والحاجة والجهل للدخول في هذه التنظيمات ولاسيما بعد أن تعرضت فصائل «الجيش الحر» لانهيار بعد هجوم المتطرفين عليها، وبعد توقف كل دعم عنها، فلم يجد بعض الشباب المقهورين غير هذه التنظيمات بديلاً يحتوي غضبهم.
ومن المتوقع أن تكون قضية إدلب محل تنازع دولي خلال شهر سبتمبر المقبل، ولن يكون سهلاً إنقاذ المدنيين إن لم تخرج تلك التنظيمات المتطرفة من إدلب، والخوف من أن يسارع الروس إلى الحل العسكري كما فعلوا في حلب، وهم اليوم يريدون الإسراع بإنهاء الملف السوري، وعودة اللاجئين والبدء بإعادة الإعمار لإعلان الانتصار الساحق، وربما يستلهمون ما نجحوا به مرحلياً في حوران والقنيطرة، ولكنهم حتى هذه اللحظة يخشون اللجوء إلى حل في إدلب ترفضه تركيا التي ستواجه مشكلة النازحين في حال حدوث هجوم كاسح، فأما النظام فهو مُصر على حل عسكري في منطقة جسر الشغور والغاب وجبل التركمان بخاصة، لكونها متداخلة مع ريف اللاذقية، لكن اشتعال النار سيهدد بشمولها كل أنحاء المحافظة، فضلاً عن امتداداتها إلى ريفي حماه وحلب، حيث نقاط المراقبة التركية، والخطر أن يتصاعد الصدام ويعزز احتمال تبدل خارطة العلاقات بين أقطاب أستانة، فضلاً عن احتمال تدخل أميركي وغربي مفاجئ سياسياً، وربما يكون خاطفاً عسكرياً لخلط الأوراق وقلب الطاولة، فالولايات المتحدة التي آثرت سياسة التخلي عن القضية السورية بدت في المرحلة الراهنة ترفع سقف تصريحاتها، ولم يأخذها السوريون مأخذ الجد، بعد الخذلان الذي تعرضوا له في حوران (وكانت الولايات المتحدة هي الضامنة)، ولكن السوريين الذين يترقبون ما سيحدث في إدلب بحذر وريبة، ويخشون دخول النظام إليها خشية فظاعة الانتقام، يرغبون أن تخرج التنظيمات المتطرفة الغريبة عن بلدهم وعن سلوكهم، ويعملون على تشكيل مجالس حكم محلية تقنية بإشراف الضامن لمرحلة مؤقتة ريثما تنعقد جولة جنيف للحل النهائي التي ستشهد ولادة المرحلة الانتقالية، ويطبق فيها القرار 2254.