وفاة سيناتور أريزونا جون ماكين في 25 أغسطس الجاري له تداعيات عميقة بالنسبة للسياسة الأميركية ومستقبل الحزب «الجمهوري»، ذلك أن «ماكين» كان شخصاً فريداً من نوعه، بطل حرب حقيقياً، وعضواً ناجحاً بمجلس الشيوخ لا يخشى قول الحقيقة، ومرشحاً للرئاسة مرتين، وواحداً من أبرز منتقدي دونالد ترامب. ماكين، الذي كان يلقب أحياناً بـ«المنشق»، كان صريحاً وصادقاً جداً بشأن مساره السياسي، وكان مستعداً دائماً للاعتراف بارتكابه لأخطاء في حياته. فقد كان من الوارد أن يفقد أعصابه بشأن بعض المواضيع الأثيرة على قلبه، ولكنه كان دائما يعتذر لأي شخص يشعر بأنه قد أساء إليه أو أخطأ في حقه أثناء مواجهة كلامية. وقد كان سلوك ماكين واحترامه لخصومه أحد أبرز ميزاته، وشكّل التباينُ القوي بينه وترامب أحدَ أكثر المواضيع مناقشة عقب وفاته.
ماكين الذي اشتهر بكونه من «الصقور» في ما يتعلق بسياسة الخارجية والدفاع، دعم حرب العراق، وكان أحدَ أبرز المؤيدين لاستراتيجية «الزيادة» التي ربما يعود لها الفضل في إنقاذ العراق من انهيار كامل في 2007. وبصفته رئيساً للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، تمتع «ماكين» بسلطة كبيرة بخصوص المواضيع العسكرية، مثل ميزانية الدفاع، كما كان من أبرز المدافعين عن حلف «الناتو»، وعن ضرورة استمرار الولايات المتحدة في لعب دور قيادي بخصوص التحديات الأمنية الدولية. وكان من المنتقدين بشدة لدور أقوى لروسيا في العالم، بما في ذلك تدخلاتها العسكرية في جورجيا وأوكرانيا. وحول هذه المسألة، عارض ماكين بشدة ما كان يعتبره مقاربة ضعيفة ومحتشمة للتعاطي مع التهديدات الروسية للمصالح الأميركية، ومن ذلك تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016.
واليوم، يشعر أنصارٌ كثر لمقاربة ماكين القوية تجاه روسيا بالقلق لكون السيناتور «جيمس إينهوف» من أوكلاهوما، المرشح لخلافته على رأس «لجنة القوات المسلحة»، لن يكون بشراسة «ماكين» أو استقلاليته بخصوص مواجهة ترامب بشأن التهديد الروسي. ومرد شهرة «إينهوف» الوحيد هو معارضته المستميتة للفكرة التي تقول إن تغير المناخ يتسبب في ارتفاع حرارة الأرض والتهديدات التي يطرحها ذلك بالنسبة للكوكب. وقد سبق له أن اعتبر عدة مرات أن تغير المناخ «خدعة»، ولهذا، فإن مواقفه بهذا الخصوص تتناقض كلياً مع تلك التي كان يتبناها ماكين.
فداحة فقدان ماكين كصوتٍ للاستقلالية في واشنطن سيفاقمها قرارُ سيناتورين «جمهوريين» آخرين- اشتهرا أيضاً بمواقفهما الخارجة عن الخط الحزبي -التنحي من منصبيهما والتقاعد. فقد اشتهر كل من السيناتور جيف فليك من أريزونا وبوب كوركر من تينيسي بالصراحة والوضوح على غرار ماكين في تحدي السلوكات المشتطة التي تصدر عن ترامب وإدارته، ولكن المرشحين الأرجح لخلافتهما من المحتمل أن يتبنيا مواقف أكثر محافظة وتأييدا لترامب، ما سيقلل من احتمالات كبح جماح ترامب من قبل أعضاء حزبه. الأمر الذي ربما يؤشر على مقاربة «جمهورية» متجانسة في المستقبل للسياسة الأجنبية والأمنية، ربما باستثناء السلوك تجاه روسيا. ذلك أن معظم مسؤولي الأمن الوطني والاستخبارات في الإدارة الحالية ما زالوا يعتقدون بأن بوتين وروسيا يطرحان تهديداً وجودياً بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، ويجب الاستمرار في مواجهتهما من خلال الدبلوماسية النشطة، ومزيد من العقوبات، وعمليات نشر دفاعية أقوى في أوروبا. ليظل بذلك ترامب وحيداً في عدم رغبته في مواجهة روسيا بشكل مباشر بسبب سلوكها.
إن شهادات التأبين في حق جون ماكين ستتواصل لعدة أيام، وذكريات صداقاته مع ديمقراطيين مثل الراحل إدوارد كينيدي ستذكّر الأميركيين بزمن جميل مضى أكثر تحضرا في الخطاب السياسي الحديث، وقد كان هذا أمل «ماكين» في أيامه الأخيرة، والكثير من الشخصيات ذات العقلية المستقلة تتفق معه بشدة.