عرف العالم، عبر تاريخه، الكثير من الثورات الصناعية التي مثلت مراحل تطور وتحول كبرى، ليس على المستوى الصناعي فحسب، وإنما على المستويات الأخرى كافة، لأن تطور الصناعة وما يرتبط بها من علوم وتكنولوجيا، انعكس على كل مناحي الحياة، وخلق أنماطاً جديدة للثقافة والسياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية وغيرها. فقد انطلقت الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر، حينما عرف الإنسان كيف يستخدم البخار في توليد الطاقة وتشغيل المحرك، وجاءت الثورة الصناعية الثانية مع اختراع الكهرباء في بداية القرن العشرين، ولذلك يمكن أن يطلَق عليها اسم ثورة الكهرباء، أما الثورة الصناعية الثالثة، فقد بدأت في سبعينيات القرن العشرين، وهي ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وقد تعرضتُ لهذه المراحل الثلاث بالتفصيل في كتابي الصادر عام 2018 تحت عنوان «أحداث غيَّرت التاريخ» الذي أتناول فيه أحداثاً تاريخية سبَّبت تحولات كبرى في مسار العالم، ومنها الثورة الصناعية. أما الثورة الصناعية الرابعة التي نحن بصددها في هذا المقال، فإن العالم يعيش مراحلها الأولى وإرهاصاتها الأولية، ويطلَق عليها الثورة الرقمية، وأهم ملامحها: الطباعة ثلاثية الأبعاد، وإنترنت الأشياء، وتحليل البيانات العملاقة أو الضخمة، والروبوتات، والحوسبة السحابية، والتنافس بين الإنسان والآلة، وغيرها من المظاهر والتجليات التي ظهرت إلى العلن، وتلك التي لم تظهر بعد.
تحولات أقرب إلى الخيال
وإذا كانت الثورات الصناعية السابقة قد أحدثت تحولات جذرية في المجتمعات في العالم على المستويات المختلفة، فإن التحولات التي أحدثتها الثورة الصناعية الرابعة، وتلك التي من المتوقع أن تحدثها، أكبر من القدرة على التصور أو التخيل، لأن تطوراتها سريعة بشكل غير مسبوق، ومضامينها أقرب إلى الخيال، حتى إنه يمكن أن يطلق عليها اسم ثورة تحويل الخيال إلى واقع. فمن كان يتصور أن إنساناً آلياً يمكن أن ينافس البشر على الفرص الوظيفية، ويحل محلهم، وينتصر عليهم في بعض الوظائف؟ ومن كان يتصور أن يرى سيارة من دون قائد تسير على الطريق أو مباني يتم بناؤها من خلال الطباعة ثلاثية الأبعاد أو عمليات جراحية يتم إجراؤها من خلال طبيب آلي أو عملات رقمية يتم التعامل بها رغم أنه لا وجود لها إلا في الواقع الافتراضي، وغيرها الكثير؟
وعلى الرغم من أننا ننظر إلى بعض منجزات الثورة الصناعية الرابعة أو مخرجاتها، حتى الآن، بأنها أقرب إلى المعجزات أو الخيال العلمي، فإن المستقبل يحمل الكثير، والتطورات المقبلة ربما تكون أكبر بكثير ممَّا رأيناه في مسار هذه الثورة، لأن الظاهر لنا ربما أقل بمراحل من المخفي أو الذي يتم التفكير فيه بمراكز البحوث العلمية في دول العالم المتقدم أو بالمؤسسات المعنية بالتطوير في هذه الدول، وهذا يعود إلى سبب أساسي هو أن المعرفة تتزايد وتتراكم بشكل غير مسبوق عبر التاريخ، حتى إن الدراسات تشير إلى أن المعرفة في العالم تتضاعف كل عام تقريباً، ولذلك فإن «كلاوس شواب»، المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، كان محقاً حينما رأى في كتابه «الثورة الصناعية الرابعة» أن هذه الثورة لا تشبه، بأيِّ حال من الأحوال، أي تجربة عاشتها البشرية من قبل، لأنها تتميز بالسرعة والعمق بما لا يقارن بأي مرحلة من مراحل التطور الصناعي من قبل.
تحديات تقنية واجتماعية
إن مهمتي في هذا المقال ليست عرض أو سرد جوانب التطور العلمي والتكنولوجي التي تحدثها الثورة الصناعية الرابعة، لأن هذه مهمة المتخصصين بهذا المجال، ولكني أريد في هذا السياق التنبيه على بعض الأمور التي من المهم الالتفات إليها على المستوى العربي، أولها أن الكثيرين في العالم العربي ينظرون إلى الثورة الصناعية الرابعة، وما تحمله من اختراعات ومنجزات، نظرة تكنولوجية فقط، ويستغرقون في هذا الجانب بشكل كبير، في حين أن هذه الثورة تنطوي على الكثير من الجوانب والأبعاد الأخرى التي من الخطير جداً إهمالها أو تجاهلها، لأن هذه الثورة لا ترتب تحديات تكنولوجية وعلمية فقط بالنسبة إلى العالم العربي والكثير من دول العالم، وإنما تحديات ومشكلات اجتماعية وثقافية وقانونية وغيرها أيضاً، لأنها تخلق أوضاعاً جديدة تضرب الكثير من المسلَّمات القائمة، ومن ثم تحتاج إلى أطر ومناهج ونظم وتشريعات جديدة للتعامل معها. وعلى سبيل المثال إذا نظرنا إلى أحد الجوانب التي يمكن أن تثيرها الثورة الصناعية، وهو الجانب القانوني، فإن هذا يطرح الكثير من التساؤلات منها: بأيِّ قانون يمكن التعامل مع الجريمة التي يمكن أن تقع من الروبوتات، أو الحوادث التي تسببها السيارات من دون قائد أو ذاتية القيادة؟ وهل يمكن منح الروبوت الشخصية القانونية؟ وكيف يمكن التعامل القانوني مع العملات الرقمية؟
تساؤلات الثورة الصناعية الرابعة
أما على المستوى الاجتماعي- الثقافي- الأمني، فإن الثورة الصناعية الرابعة تطرح الكثير من التساؤلات مثل: كيف يمكن التعامل مع ملايين الموظفين والعمال الذين من المتوقع أن يصبحوا عاطلين عن العمل بسبب التوسع في «أتمتة» الأعمال والاعتماد بشكل أكبر على الروبوت لكي يحل محل الإنسان في بعض الوظائف؟ وكيف ستؤثر الثورة الصناعية الرابعة في منظومات القيم بالمجتمعات المختلفة؟ وما تأثيرها في الأمن؟ وما تأثيرها في طبيعة العلاقات بين البشر؟ وغير ذلك من التساؤلات التي سوف تطرح نفسها بقوة خلال الفترة المقبلة.
ثانيها أن الحديث في الكثير من مناطق عالمنا العربي حول الثورة الصناعية الرابعة، يتركز حول المخاطر والمخاوف أكثر من الفرص والإيجابيات، وهذا، للأسف، نهج عربي قديم في التعامل مع أي تغيير لا بد من تغييره إذا أراد العرب أن يكون لهم حضور في خريطة التقدم في العالم.
ثالثها أن مشاعر الصدمة وعدم التصديق لا تزال هي المسيطرة على البعض في عالمنا العربي في التعامل مع الثورة الصناعية الرابعة، حيث يتم النظر إلى ما يثار حول هذه الثورة وكأنه حديث في الخيال، على الرغم من أنه تحول إلى واقع لا يمكن إنكاره أو التشكيك فيه، وحان الو قت لتجاوز حالة الدهشة تجاه هذه الثورة، والإيمان بأنها حقيقة علينا أن نتعامل معها.
رابعها أنه ليس هناك رؤى واضحة للتعامل مع منتجات الثورة الصناعية الرابعة ومنجزاتها في الكثير من الدول العربية، فالجميع يتحدث ويحذر وينبه، لكن لا أحد يفكر بجدية في التعامل مع هذه الثورة التي لا يمكن إيقافها أو إبطاء اندفاعها نحو الأمام بسرعة غير مسبوقة. خامسها أن هناك مجتمعات عربية لم تدخل الثورة الصناعية الثالثة بعد، وربما ما قبل ذلك، فكيف يمكن الحديث بشأنها حول الثورة الصناعية الرابعة والتعامل معها؟ هذه مشكلة كبيرة تزيد من اتساع الفجوة القائمة بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات النامية، ومنها بعض المجتمعات العربية بشكل خطير.
وعلى الرغم من أن العالم العربي، في مجمله، يواجه معضلة في التعامل مع الثورة الصناعية الرابعة، سواء على مستوى البنية التحتية أو الفكر أو الرؤية الاستشرافية، فإن هناك بعض الدول العربية التي تبدي إدراكاً وفهماً عميقَين لمسار التطور في هذه الثورة التكنولوجية، وتستعد للتعامل معها، والانخراط فيها، واستشراف مستقبلها، ومن هذه الدول دولة الإمارات العربية المتحدة التي أدركت منذ وقت مبكر طبيعة التغيرات الصناعية والتكنولوجية في العالم، وعملت وتعمل على التعامل معها من خلال رؤى استراتيجية وأطر مؤسسية واضحة، حيث أنشأت «مجلس الثورة الصناعية الرابعة»، و«مجلس علماء الإمارات»، وأطلقت «بروتوكول الثورة الصناعية الرابعة»، بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2017، والذي يشتمل على ثلاثة محاور هي: توفير بيئة متكاملة وآمنة للبيانات، وصياغة سياسات وتشريعات الثورة الصناعية الرابعة، وبناء منظومة قيم وأخلاقيات الثورة الصناعية الرابعة.
مشروع الفضاء الإماراتي
وفضلاً عما سبق، هناك مشروع الفضاء الإماراتي «المريخ 2117»، وهو أول مشروع فضاء عربي، ويستهدف بناء مدينة سكنية على كوكب المريخ، و«الاستراتيجية الوطنية للابتكار» التي تنطوي على الكثير من الخطط وبرامج العمل التي تستهدف تعزيز الابتكار والإبداع في قطاعات الدولة المختلفة من خلال مسارات عدة، أولها إرساء بيئة محفزة للابتكار، وثانيها تطوير الابتكار الحكومي، وثالثها دفع القطاع الخاص نحو مزيد من الابتكار، ورابعها بناء أفراد يملكون مهارات عالية في الابتكار. وهذا إضافة إلى الخطوات المهمة التي تم اتخاذها في مجال تطوير التعليم بصفته المدخل الحقيقي والأساسي إلى التقدم والانخراط الفاعل في الثورة الصناعية الرابعة بكل جوانبها وأبعادها، ومنها: استراتيجية وزارة التربية والتعليم 2010-2020، و«استراتيجية التعليم العالي 2030»، واستراتيجيات تطوير الكوادر البشرية المواطنة، وإعداد أجيال المستقبل للتعامل مع متغيرات عالم الغد على مستوى التعليم والوظائف والخدمات وغيرها.
إن كل ما سبق، يؤكد أمراً أساسياً هو أن دولة الإمارات العربية المتحدة هي نموذج لكل الدول العربية في التعامل مع الثورة الصناعية الرابعة، وأن على العالم العربي أن يحذو حذوها في هذا المجال.