كل سنة، يجتمع سفراء فرنسا من أجل مؤتمر مهم، وهي فرصة يقدم فيها رئيس الجمهورية رؤيته للعالم وللدور الذي ينبغي لفرنسا أن تلعبه فيه. وفي الخطاب الذي ألقاه في 27 أغسطس 2018، تقمص إيمانويل ماكرون دور «المدافع عن تعددية الأطراف» (العبارة نفسها التي استخدمها) ومنتقد الأحادية، التي جعل منها الهدف الرئيس لانتقاداته، مشيراً بشكل خاص إلى ضرورة إنشاء تحالفات جديدة من أجل التغلب على التحديات المعاصرة.
كما شدد على حقيقة أن أوروبا لم يعد بإمكانها «تفويض أمنها للولايات المتحدة وحدها». وقال في هذا السياق: «ينبغي علينا اليوم (مشيراً إلى نهاية الحرب الباردة) استعادة مسؤولياتنا وضمان الأمن وبالتالي السيادة الأوروبية». وأردف قائلاً: «إن التحالفات مازالت مهمة، غير أنه ينبغي مراجعة وإعادة النظر في التوازنات، وأحيانا الآليات التي قامت عليها».
وإذا كانت استراتيجيته التي وُضعت مع الرئيس الأميركي (اتصالات مكثفة، بل حارة) تعرضت للانتقاد بسبب غياب نتائج، فإنه دافع عنها وتبناها مشدداً على ضرورة إقناع مخاطبه قبل اتخاذ القرار من أجل معارضته بطريقة واضحة عندما يتم اتخاذه. سياسة الحوار هذه التي لا تحول دون المعارضة، أو المعارضة التي لا تمنع الحوار، استُخدمت أيضاً مع الصين، التي اعتبر أنها «طرحت أحد المفاهيم الجيوسياسية الأكثر أهمية خلال العقود الأخيرة مع طرق حريرها الجديدة»، والتي وصفها مع ذلك بـ«الساعية للهيمنة». ولكنه في الوقت نفسه أعاد التأكيد على رغبته في زيارتها كل سنة. إنها الطريقة نفسها المستخدمة مع روسيا: حوار جاد يرفض الإقصاء والتراخي.
وفي ما يتعلق بموضوع سوريا، أعاد إيمانويل ماكرون التأكيد على أن الأولوية هي محاربة تنظيم «داعش». واستبعد فرضية قبول «عودة إلى الوضع الطبيعي» تقوم على بقاء بشار الأسد «الذي قتّل شعبه» في السلطة.
أما فيما يتعلق بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان، و«مشروع الرابطة الإسلامية الذي يقدَّم على أنه معادٍ لأوروبا، والذي تتعارض مبادئه مع مبادئنا»، فقد أعلن إيمانويل ماكرون تعليق مفاوضات انضمام بلده إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن مع الانخراط في حوار استراتيجي معه. هذه العناصر تنسجم مع الرؤية التي لدى الرئيس الفرنسي عن أوروبا على مستويات متعددة: دائرة أكثر قرباً وصغراً من الاتحاد الأوروبي الحالي، ودائرة نهائية أكبر.
وكانت الأنظار قد اتجهت إلى فرنسا من أجل معرفة موقفها، ولاسيما بعد أن رفعت ألمانيا السقف عالياً من خلال تصريحات وزير الشؤون الخارجية. فقد قال "هيكو ماس" إن بلده ترفض «قبول أن يتم إقرار سياسة من دون علمنا يتعين علينا تحمل تكاليفها». والواقع أن الثنائي الفرنسي- الألماني يمكن أن يكون محرك هذا المشروع، ذلك أن ألمانيا لم تعد في حاجة إلى الحماية الأميركية ولم تعد تخشى ذكر مصطلح «الاستقلال الاستراتيجي». غير أنه يوجد تناقض في التحليل المنطقي الفرنسي، وذلك لأنه إذا كان الهدف هو رفع ميزانيتنا العسكرية إلى 2 في المئة من الناتح المحلي الإجمالي (ما يفترض أن يرفعها إلى 50 مليار يورو)، فإن إمكانيات وزارة الخارجية الفرنسية تخضع للتقليص بشكل دوري. وفي خطابه بتاريخ 28 أغسطس، ذهب رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب إلى حد الإشارة إلى هدف تقليص كتلة أجور الإدارات الفرنسية الموجودة في الخارج بـ10 في المئة بحلول 2022.
والحال أن إقامة حوار جاد ومسؤول مع كل القوى الكبرى والحضور على كل الجبهات الدبلوماسية يتطلب زيادة إمكانيات العمل الخارجي لفرنسا. ولا شك أن السنة القادمة ستكون حاسمة بالنسبة لإيمانويل ماكرون. فكيف يأمل كسب رهانه الأوروبي؟ الأكيد أن الحكم على أدائه سيكون رهيناً بمدى تحقيق تقدم في الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي.