«دانيال كوهين» مفكر اقتصادي فرنسي صدر له مؤخراً كتاب مهم بعنوان «يتعين القول إن الأزمنة تغيرت»، يدرس فيه مسار الانتقال من الحضارة الصناعية إلى المجتمعات ما بعد الصناعية الراهنة التي تغيرت فيها جذرياً المعادلة الإنسانية في أبعادها المختلفة.
ما يبينه كوهين هو أن الخروج من الحضارة الصناعية قد انعكس في الحقل الاقتصادي بالانتقال من سردية العمل الإنتاجي المرتكز على المادة إلى اقتصاد الخدمات المتمحور حول التفاعل الإنساني بما يقتضي لتحقيق النمو الاقتصادي تحويل الإنسان إلى مادة رقمية مسجلة ومندمجة في الفضاء التواصلي المفتوح والمتزامن.
بيد أن المفارقة الكبرى الملاحظة حالياً هي أن مجتمعات العولمة الاتصالية أفضت إلى تقويض البنيات الإدماجية التي أنتجتها الحضارة الصناعية، من هياكل طبقية ومنظومات سياسية ومؤسسات بيروقراطية مركزية.. بما يفسر -حسب كوهين- بروز النزعات الشعبوية التي اجتاحت العالم في السنوات الأخيرة.
الشعبويات الجديدة تعبر من هذا المنظور عن انهيار الوسائط الإدماجية للمجتمعات الصناعية التي تركزت على محورية الطبقة العاملة والأيديولوجيا الاشتراكية التي شكلت «الديانة اللائكية» للقرن العشرين، ومن هنا تشبثها بمفاهيم السيادة والوطنية التي انحسر زخمها.
ما نريد أن نبينه هنا هو أن الصراع الأيديولوجي الراهن يدور في الواقع ما بين ثلاثة توجهات كبرى متصادمة في الحلبة السياسية الانتخابية في الديمقراطيات الغربية، وهي: الشعبوية في نسختيها اليمينية واليسارية، والليبرالية المحافظة، والنزعات القومية غير الليبرالية، وهي اتجاهات ثلاثة من الصعب أحياناً الوقوف بدقة على خطوط الفصل ما بينها.
ما تتفق فيه الشعبويات بلونيها هو النظرة السلبية تجاه النخب المهيمنة والمؤسسات العمومية واعتماد تصور حيوي للسياسة من حيث هي التعبير عن الهوية الحقيقية للشعب في مقابل القوى المنظمة التي تدعي تمثيله. الفرق الأساسي بين الشعبوية اليمينية والأخرى اليسارية هو أن الأولى تميل إلى معايير الانتماء القومي والهوية المغلقة، في حين تميل الثانية إلى التصور الصراعي للسياسة ضمن فكرة تحالف الهيمنة المفضي للتغيير الثوري. الشعبوية اليمينية هي التي تتحكم حالياً في العديد من البلدان الأوربية (إيطاليا وهنغاريا وبولندا ورومانيا)، وكذلك في الولايات المتحدة، بينما هيمنت الشعبوية اليسارية على أميركا اللاتينية في العقد الماضي. ومن التنظيمات المنتمية إليها في أوروبا حزب «بوديموس» الإسباني، و«سيريزيا» اليوناني، و«حركة فرنسا المتمردة» في فرنسا.
ما يميز الشعبوية اليمينية عن الليبرالية المحافظة، مع اشتراكهما في الخلفيات المرجعية على المستوى الاقتصادي، هو أن الليبرالية المحافظة تظل متشبثة بالقيم والمفاهيم النظرية لليبرالية السياسية التقليدية، من ذاتية فردية وتعددية إجرائية وتصور للمجال العمومي والخير المشترك. الليبرالية المحافظة هي التي حكمت في بريطانيا والولايات المتحدة خلال عهد تاتشر وريغان، وتشارك في الائتلاف الحاكم حالياً في ألمانيا، وإليها ينتمي المرشح اليميني الفرنسي للرئاسة في السنة الماضية رئيس الوزراء الأسبق فرانسوا فيون.
أما النزعة القومية غير الليبرالية فهي الاتجاه الحاكم حالياً في روسيا والصين (وجزئياً في تركيا التي تتداخل فيها مع الإسلام السياسي وفي الهند التي هي ديمقراطية عريقة ومستقرة)، وسمتها الأساسية هي منح دور محوري للدولة في ضبط الحقل السياسي من حيث هي التجسيد الموضوعي للهوية الجماعية العميقة للأمة، بما ينجر عنه اختزال الديمقراطية التعددية في آليات إعادة إنتاج النظام السياسي القائم.
تختلف النزعة القومية غير الليبرالية عن الشعبويات اليمينية في كونها وإن تقاسمت معها نفس النفور من القيم الليبرالية التعددية، إلا أنها تتميز بمفهومها الإجماعي التحشيدي للشعب منظوراً إليه في شكل أمة موحدة متجانسة بروح أصيلة تتجاوز الظرفيات التاريخية والتمايزات الاجتماعية، في حين تتبنى النزعات الشعبوية مفهوم الصراع بين الضمير الوطني العميق والنخب «الفاسدة» أو «الخائنة».
ما تعبر عنه هذه الخارطة الجديدة هو تراجع الصياغتين التأليفيتين اللتين ضمنتا الاستقرار السياسي والرفاهية الاقتصادية في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة: اليمين الليبرالي الذي تبنى الإصلاحات الجوهرية التي عرفتها رأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما تبنى الإصلاحات الاجتماعية التي طالبت بها القوى الحقوقية والمدنية بعد انتفاضة 1968 التي عرفتها الجامعات الأوربية والأميركية، واليسار الديمقراطي الذي تصالح مع القيم الليبرالية وتخلى عن الراديكالية الثورية وسدد اختلالات اقتصاد السوق بما لها من تأثير على الحقوق الاجتماعية للأفراد.
وحاصل الأمر أن الصدام الأيديولوجي لم ينته بانتهاء العالم الصناعي التقليدي، بل إن ما حدث هو تغير موازين ومحددات ومفاهيم الخارطة الأيديولوجية بتغير نمط الحضارة الإنسانية نفسه.