برغم مرور خمسة وأربعين عاماً على حرب أكتوبر 1973 ما زالت الأجهزة الإسرائيلية مشغولة بالانتقام من خطة الخداع الاستراتيجي المصرية التي قادها الرئيس السادات بنفسه ومعه أجهزة المخابرات المصرية، والتي تم فيها تدريب الضابط أشرف مروان على العمل خلف خطوط العدو، وتكليفه بمهمة تطبيق عملية خداع للقيادات الإسرائيلية، صممتها وأدارتها مجموعة خبراء مصريين تحت قيادة الرئيس شخصياً.
ومن العلامات الدالة على هذا الانشغال الإسرائيلي بالانتقام ذلك الفيلم الهزلي الذي يحمل اسم «الملاك»، والذي طرحته شركة «نيت فليكس» الأميركية للتوزيع السينمائي بدور العرض مؤخراً، والذي يحاول إفهام الإسرائيليين والعرب والعالم بسذاجة مكشوفة أن «الموساد» استطاع اختراق القيادة المصرية العليا وتجنيد صهر الرئيس عبد الناصر وسكرتير الرئيس السادات لشؤون المعلومات ليعمل لصالح إسرائيل!
كان رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية الجنرال إيلي زاعيرا في فترة حرب أكتوبر أول من كشف للعالم في مذكراته بالتفاصيل، بعد مرور عشرين سنة على الحرب، أبعاد الدور الذي قام به هذا الضابط المصري العربي في تطبيق خطة الخداع الاستراتيجي المصرية باعتباره طعماً ألقته المخابرات المصرية في فم جهاز «الموساد» المسؤول عن تجنيد العملاء الأجانب وتشغيلهم.
من المفهوم في جميع أجهزة المخابرات في العالم أن من يقوم بمثل هذا الدور البطولي بالدخول إلى فم العدو ليتلاعب بعقله ويضلله، يضع في حسبانه أن أهدافه يمكن أن تنكشف للعدو في أي لحظة وساعتها فإنه سيدفع حياته ثمناً لخدمة وطنه.
وهذا بالضبط ما حدث مع الضابط المصري المذكور عندما اكتشف الجنرال زاعيرا حقيقة دوره متأخراً، فقامت الأجهزة الإسرائيلية بالانتقام منه بتصفيته جسدياً في لندن عام 2007، وهو ما دفع زوجته السيدة منى ابنة الرئيس عبد الناصر إلى تقديم بلاغ للشرطة البريطانية تتهم فيه «الموساد» الإسرائيلي بقتل زوجها.
يأتي الكتاب الذي يقوم عليه فيلم «الملاك» الهزلى ليدعي مؤلفُه كذِباً أن المصريين هم من قتلوا أشرف، ويبرر هذا الادعاء بأن المصريين فعلوا هذا بعد أن اكتشفوا أن مروان يعمل لصالح إسرائيل، وهي محاولة مكشوفة من جانب المؤلف «أوري بار يوسف» لترويج الفكرة الكاذبة التي اختلقها الجنرال تسيفي زامير رئيس «الموساد» في فترة الحرب، والتي يدعي فيها أن مروان كان جاسوساً مخلصاً لإسرائيل، في محاولة لتبرئة نفسه من تهمة التقصير وتهمة الوقوع في الفخ الذي نصبه له الرئيس السادات والمخابرات المصرية عن طريق الدفع بمروان إلى فمه.
لقد كنت أول من أن أوضح في مقالاتي عام 2017 أن هناك كتاباً إسرائيلياً آخر صدر عام 2015، ألّفه ضابط المخابرات الإسرائيلي شمعون مندس، وأن هذا الكتاب وضع له مؤلفه عنواناً دالاً وهو «جهاد السادات»، وأكد فيه بالأدلة كذب رواية زامير رئيس «الموساد» وصحة رواية الجنرال زاعيرا رئيس المخابرات العسكرية عن مروان باعتباره طُعماً ألقاه السادات بنفسه في فم «الموساد»، بهدف تضليل القيادة الإسرائيلية بشأن نيته لشن الحرب، وبشأن الموعد الحقيقي لها، وليمنع إسرائيل من توجيه ضربة استباقية لإجهاض الهجوم المصري قبل وقوعه.
إن الوقائع التي حدثت بالفعل في ميدان القتال عام 1973 تؤكد نجاح السادات في هدفه، ونجاح مروان في مهمته، وتكذِّب محاولة فيلم الانتقام الإسرائيلي لقلب الحقائق عبثاً.