لا يُستعاد التاريخ، فأحداثه تولد وتنمو ثم تموت إلى الأبد، لكنها قد تبعث على هيئة مغايرة، أو تُستعار، كي تؤدي وظائف في حاضرنا، تتصاعد من مجرد التسلية والتزجية، وصولاً إلى بناء الاستراتيجيات التي تحكم المستقبل، مروراً بالتبرير وإذكاء العصبيات والنعرات المهلكة وفي صورة أفضل تعزيز الانتماء وتعميق الجذور.
وهذه الاستعارة، التي قد تكون بمنزلة بعث للتاريخ، لا تعني أن التاريخ يعيد نفسه أو يسير في مسارات ودورات متشابهة وجامدة كما يرى البعض أو يعتقد، فالحياة على الأرض في تغيير لا يتوقف، يراه البعض ارتقاء، ويراه آخرون تأخراً، لكنه في الحالين هو تغير، سواء كان تطوراً أم تدهوراً، وهي مسألة يختلف فيها الناس، حسب الأولويات أو الأوزان النسبية التي يعطيها كل منهم للأشياء والأفكار والقيم. فمن يشغلهم التطور التقني وقدرة الإنسان على التحكم في الطبيعية، يرون أننا في تطور، أما المنشغلون بالخواء الروحي والتردي الأخلاقي فيمكن أن يروا أن التاريخ لا يسير بنا إلى تحسن.
وقد انطلق الدكتور جمال سند السويدي، أستاذ العلوم السياسية ومدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية والكاتب بجريدة الاتحاد، في كتابه الجديد «أحداث غيرت التاريخ» من هذه الفرضية، حيث يقول في مقدمته: «ما أقوم به، وأرجو أن أكون موفقاً فيه هو إطلالة أخرى على أحداث تاريخية فاصلة، بالنسبة إلى ما سبقها، وما تلاها من أحداث، مؤمناً بأن التاريخ لا يعيد نفسه، لأن هذا مستحيل، ولكن يمكن أن تتشابه حوادثه، بحيث يكون الرجوع إلى الماضي هو في حقيقته محاولة لفهم الحاضر بشكل أفضل، وليس نزعة إلى الهروب إلى الخلف أو اجترار الماضي، خاصة إذا كنا نعيش ظروفاً مشابهة لتلك التي جرت فيها أحداث تاريخية كبرى، أو نعاني آثارها ونتائجها».
لكن الأحداث الكبرى التي شهدها العالم في القرون الأخيرة بدءاً بحركة الكشوف الجغرافية وانتهاءً بالثورة المعلوماتية التي بدلت حياتنا جذرياً، بوسعها دوماً أن تمنحنا استعارات مفيدة، في وقتنا الراهن، رغم تغير الظروف وتعدد زوايا النظر بعد أن تعاقبت السنين على أحداث عالمية من قبيل: الحرب الطائفية البغيضة بين الكاثوليك والبروتستانت، والثورة الصناعية التي أعادت صياغة المجتمع العالمي، ومعاهدة فيينا التي أنهت الحروب النابليونية، واكتشاف النفط الذي غير خريطة العالم الاقتصادية، وإلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة، والكساد الكبير الذي شهده العالم سنة 1929، والحرب العالمية الثانية، واختراع القنبلة النووية، وسقوط جدار برلين، وهجمات 11 سبتمبر، وأحداث أخرى إقليمية مثل اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت العالم العربي، ونكبة فلسطين، وقرار أميركا بتحويل سفارتها إلى القدس، وإنشاء السد العالي، وحرب أكتوبر 1973، وقيام اتحاد الإمارات عام 1971.
هذه الأحداث التي اختارها الكاتب بعناية قابلة للاستعارة، كل وفق مساره ونتائجه أو خلاصة العبرة والحكمة فيه. فالكشوف الجغرافية أسست لتفوق أوروبا، ومن ثم الغرب، وإذا كان ما على الأرض كلها من مواقع قد تم اكتشافه، فإن الباحثين عن التفوق يفكرون الآن بتعزيز غزو الفضاء. والحرب الطائفية تُعلمنا كيف نتفادى الاستجابة للتعصب الأعمى، الذي يقود إلى القتل والتدمير. وتفيد الثورة الصناعية في ترسيخ الإيمان بأن الوجود وتحسين شروط الحياة مرتبطان بالابتكار. ومعاهدة فيينا لا تزال قادرة على إعطائنا مثلاً ناصعاً على الطريقة الناجعة لصناعة السلام. و«سايكس بيكو» القديمة تتجدد المخاوف من تكرارها الآن بصورة أكثر ضراوة. والخلافة الإسلامية هناك من يقاتل من أجل استعادتها واستعارتها متجاهلاً اختلاف الزمان والمكان والغايات والأحوال. والكساد الكبير كان حاضراً في الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم 2008، وبرهنت على ضرورة وجود دور للدولة في إدارة الاقتصاد. والحرب العالمية الثانية تستعار فظائعها في وقف أي انزلاق للدول المتصارعة إلى حرب عالمية ثالثة. وضرب هيروشيما وناجازاكي يستعار في إعطاء الدلالة على خطورة امتلاك دول جديدة لسلاح نووي. وتشييد السد العالي وحرب أكتوبر يحضران في آمال العرب وتطلعاتهم إلى امتلاك الإرادة القوية واستقلال القرار والتخطيط العلمي. واستمرار اتحاد الإمارات يستعار في البرهنة على إمكانية وجود تجارب وحدوية عربية ناجحة. وسقوط جدار برلين يستفاد منه في ضرورة مفارقة بؤس الأيديولوجيا وإنهاء أي جدران مادية أو فكرية واعتقادية مرتبطة بالتعصب والاستعلاء الحضاري أو الديني.
لقد انقضت هذه الأحداث الكبرى في الواقع، وبقيت آثارها، التي تتجاوز مجرد ما ترتب عليها من حقائق غيرت دفة التاريخ، لكن لا يزال يسكن رؤوسنا من مجازات عنها، تناسلت في أشكال التدوين التاريخي لها، وفي تصور الأجيال اللاحقة لما جرى فيها، وفي الاستعارات التي تتوالى لهذه الأحداث في مجال مضاهاتها بما يجري الآن، وما يجب علينا أن نفعله كي نتفادى مغارمه، ونجني مغانمه.