في التَّجربة السعُوديَّة الرَّاهنة ـ بما تحمله من تغيرات كبرى في جميع المجالات ـ هناك ما يُثير الدهشة لسرعته وتفرعاته، وهناك ما يُقدم نوعاً من القدرة على التغيير لأنه مؤسس على تراكمات تاريخية، وآخر يَشِي بتطورات آمنة مهما كانت نظرات التقييم الموجهة إليها، وهذا كله من العلامات الدّالة على ثراء التجربة، وتميزها، من منطلق أنها دائماً كانت ولا تزال نابعة من ذاتها.
والواقع أنه كُلَّما حلَّ تاريخ 23 سبتمبر، من كل عام، عادت الذكريات بالعرب جميعهم وليس السعوديين فقط إلى زمن التغيير المُبكِّر، وذلك حين تمّ توحيد كل أجزاء الدولة السعودية الحديثة تحت اسم «المملكة العربية السعودية»، بموجب المرسوم الملكي الذي أصدره الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، وقد اختار جلالته يوم إعلان قيام المملكة العربية السعودية في يوم الخميس الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى 1351 هـجرية، الموافق الثالث والعشرين من شهر سبتمبر 1932، يوماً وطنياً، وبغضَّ النَّظر عن الجانب الاحتفالي للمناسبة، فإنها تمثل أيضاً مسار حركة التاريخ في هذه المنطقة من جهة، وظهور أفكار التغيير من الداخل من جهة ثانية، ناهيك على أن تلك تعدُّ بداية تأسيس الدولة الوطنية في الوطن العربي، بما يتفق ويساير الصِّيَغ الدَّوْليَّة لميلاد الأقطار والأمم.
لقد كان ميلاد المملكة العربية السعودية، بعد 32 عاماً من الحرب، قادها الملك عبد العزيز، إيذاناً بجمع الشتات وتوحيد الأجزاء في دولة لها هيبتها وصوتها ومكانتها بين دول العالم، ضمن تجربة لها سماتها الخاصة عل مستوى العالمين العربي والإسلامي، وتملك قوة التأثير الروحي والمادي، وهو ما عجزت عنه دول كثيرة ـ بما فيها تلك التي تصارعها ظلماً وبهتاناً باسم المذهبية ـ في الماضي والحاضر، نظراً لأن مؤسسها امتلك بين يديه ـ كما تشير المصادر والكتابات التاريخية ـ نقاط المبادرة، ورؤية مستنيرة واضحة أمام عينيه نحو المستقبل، وبذلك تمكّن من إنشاء الدولة وتكوين هويتها، وإقامة مشاريع نهضوية وحضارية، كما عمل على إبراز ملامح مملكته الناشئة لدى العالم الخارجي من خلال إقامة علاقات دبلوماسية ناجحة.
اليوم، تُعِيدُ السعودية ـ وهي تحتفل بعيدها الوطني ـ تذكيرنا بكيفية صناعة التاريخ، وتحديد مساراته على المستويين الثقافي والسياسي عبر تقديم وعود للتغيير بقيادة جيل جديد، يَتَميَّز بالإصرار والجدية والإرادة القوية، والإدراك لمعطيات العصر، والأكثر من هذا استناده إلى التجربة المحلية التي تجاوزت الثمانية عقود، وما حملته من فطنة ووعي بكل الدسائس التي تحاك ضدها، وهي تتخذ قراراتها المصيرية في السلم والحرب، وما سبقها أو صاحبها من رؤى مستنيرة تعيش من الآن في فلك المستقبل، وهذه التجربة بما حققته من نجاحات على طول العقود الماضية ـ أقلها الحفاظ على استقرارها وأمنها واستقلالها ـ من غير المقبول أن تظل أسيرة مجالها الجغرافي المحلي والإقليمي، ولا أن تبقى خاضعةً للتاريخ بما في من محطات زهو وانتصار، إنما من الضروري الاعتراف بدورها بعيداً عن حساباتها المحلية، أو محاولة الآخرين تسْفِيه دورها، ليس فقط لأنها أكبر من ذلك، ولكن لأنها تملك من خلال عناصر نُخَبِها أفكاراً إبداعيَّةً خلاَّقةً، تؤكد نجاحها، وقابليتها للتصدير.