أرسلت الصين وروسيا رسالة سياسية مشتركة إلى واشنطن. لم تكن الرسالة مكتوبة بالقلم والورق. كانت رسالة عملية كتبها 300 ألف جندي روسي 3200 جندي صيني. واستعمل في كتابتها ألف طائرة عسكرية و 36 ألف دبابة روسية، و 900 دبابة وآلية مصفحة صينية. فالروس والصينيون يعتقدون الآن أن "السيف أصدق أنباء من الكتب"..
كانت الدبلوماسية الأميركية تراهن في لعبة الأمم على أن الروس والصينيين لن يكونوا حلفاء أبداً. وان خروج الصين من القمقم الذي سجنت فيه طويلاً يشكل عاملاً إضافياً للقلق الروسي. فقد وصل هذا القلق إلى خوف روسيا من أن تتوسع الصين شمالاً حتى سيبيريا الشرقية. ولكن في الذكرى الخمسين لانفتاح الولايات المتحدة على الصين بعد قطيعة طويلة، قام بها الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون من خلال وزير خارجيته في ذلك الوقت هنري كيسنجر، حدث ما لم تصدقه الدبلوماسية الأميركية. فقد كان الهدف الاستراتيجي للانفتاح الأميركي على الصين، تضييق الخناق على روسيا ومحاصرتها. ولكن الإدارة الأميركية الحالية برئاسة ترامب بدأت تحصد عكس ما زرعه سلفه. فالتقارب الروسي – الصيني ليس مجرد حركة صغيرة على رقعة الشطرنج في لعبة الأمم الدولية. إنه مبادرة هجومية بالغة الأهمية وبعيدة الدلالات.
فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، وبعد الانفتاح الأميركي على الصين، طويت صفحة الحرب الباردة، لتتبوأ الولايات المتحدة موقع الصدارة في العلاقات الدولية. وفي ذلك الوقت صدرت نظريات "نهاية التاريخ" لفوكوياما بتتويج واشنطن بما تمثله من ليبرالية ورأسمالية، سيدة وحيدة على العالم. أما اليوم فإن الرئيس الروسي بوتين الذي يعتبر سقوط الاتحاد السوفييتي "أكبر خطأ استراتيجي حلّ بالعالم في القرن العشرين"، فإنه يعمل منذ أن تولى السلطة على إعادة الاعتبار إلى الكرملين لتصحيح هذا الخطأ. وقد ذهب غرباً وشرقاً في عملية إعادة الاعتبار هذه، فكانت عملية استعادة شبه جزيرة القرم في عام 2014 بعد صدامات عسكرية مع أوكرانيا والتي لم تتوقف حتى الآن. ثم كان تدخله العسكري المباشر في سوريا، حيث فرض بلاده كقوة عسكرية جوية وبحرية في شرق المتوسط محققاً في ذلك حلماً قديماً حتى للعهد القيصري! وقد تمثل هذا الحضور المؤثر مؤخراً بالمناورات العسكرية التي أجرتها القوات الروسية لأول مرة في مياه وأجواء المنطقة. ثم كان انفتاحه على الصين متجاوزاً الحساسيات السابقة التي كانت موضع استغلال واستثمار على مدى عقود طويلة بيد الدبلوماسية الأميركية.
شكلت سياسة ترامب السلبية من الصين عاملاً مشجعاً للتجاوب الصيني مع المبادرة الإيجابية الروسية، ذلك أن هذه السياسة بدت وكأنها على النقيض من الأهداف التي كانت وراء مبادرة نيكسون – كيسنجر. ولم تكن المبادرة تقتصر على الانفتاح الاحتوائي للصين فحسب، ولكنها كانت تهدف إلى أكثر من ذلك، وهو استثمار الخلافات بين موسكو وبكين بما يعزز الاستفراد الأميركي بلعبة الأمم، ويطلق يد الولايات المتحدة منفردة في آسيا ومستفردة بها.
وفي شهر أبريل الماضي، أي قبل المناورات العسكرية الروسية – الصينية المشتركة، قام قائد قوة الصواريخ العابرة للقارات في الجيش الصيني الجنرال "وي فانغ" بزيارة رسمية لموسكو، ولعل أهم ما في تلك الزيارة كان التصريح الذي أدلى به وجاء فيه ما ترجمته حرفياً: "لقد جئنا إلى موسكو لنقول للأميركيين أين وصلت علاقات القوات المسلحة في كل من الصين وروسيا". لا شك في أن هذه الرسالة قد وصلت إلى واشنطن. ولكن يبقى السؤال: كيف ستردّ؟ وأين؟ في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التذكير بموقف الرئيس ترامب السلبي من حلف شمال الأطلسي ومن وصفه الاتحاد الأوروبي بأنه عدو.
من شرق آسيا حتى غرب أوروبا، يبدو أن هناك تعريفات جديدة للصديق وللعدو، الأمر الذي يحتم وضع قواعد جديدة للعبة الأمم. فأين العالم العربي من هذه اللعبة؟!