في هذه المدينة السويسرية، جراندل وولد، يسترخي الثلج على صدر الجبل، والغيمة الفيحاء تحرس عفته، بلباقة الغريزة الكونية، والبرودة اليافعة، تلف المكان بمعطف الشفافية، والكبار يلتئمون مع فلذاتهم على السفح الجليدي، زاحفين على عجلات التزلج مثل بطارق يلونها الثلج بالفرح، وتجتاح المدينة الباردة ابتسامات عيد الميلاد المجيد، وتغاريد الصغار، مثل عصافير تفر من بين أغصان البهجة، باحثة عن فرجة تطوق مباسمها الصغيرة، بلفحات النسائم العليلة، مثل أكمام الزهور في فصل ربيعي.
وأنت القادم من تحت سقف الشمس النارية، تدهشك هذه المشاهد، وتحسد هذه الأجساد الصغيرة، كيف يحلو لها اللهو في الزمهرير، كيف لا تضم الثغور الأشبه بثقوب قناني الماء الزجاجية، كيف لا يخاف الكبار على عصافيرهم من إنفلونزا الشتاء، بينما نحن في شتائنا الفقير، نراكم الصوف على القطن، على الكتان، على ظهور أطفالنا خوفاً من التهاب اللوز، وحرارة الزكام الذي تعج به المستشفيات، لمجرد انخفاض درجة الحرارة إلى الثلاثين درجة.
لدرجات الحرارة ثقافة، كما للتعامل مع الفصول السنوية ثقافة، وثقافتنا هي ثقافة التراكم، والاختفاء خلف الملاءات الثقيلة، خوفاً من غضب الطبيعة، ولهذه الثقافة تاريخ من العلاقة غير السوية مع الطبيعة.
عندما لا تكون العلاقة ودية مع مكونات الحياة، فلا بد لك من الاختباء، اتقاء لضرر الطبيعة، وعندما لا تكون حنوناً مع الطبيعة، فإنها لا تبالي بك، وتدعك تعيش أوهامك الدنيوية، تدعم بلا حليف يضم شتاتك، تدعك عارياً من الطمأنينة.
فما أجملهم، وهم يتعاطون مع الحياة من دون مكملات زائفة، وما أروعهم وهم يختزلون الحياة بابتسامة عفوية لا يضاف إليها انكسارات ولا إحباطات، ولا أفعال الضمير الغائب، إنهم مثل الطبيعة التي تطوقهم بالبياض، ناصعين، يانعين، عجائزهم شباب في سن السبعين والثمانين، هم مثل الأشجار الخالدة، خضراء لدنة، يرتادها الطير رياناً بنضارة أوراقها الهفهافة.
في هذه المدينة، الأشياء تختال ضاحكة من أثر الحبور، وتعانق الطبيعة مع الناس، وتصافح الناس مع منجزات الطبيعة الخلابة.
في هذه المدينة، يبدو الثلج كأنه لحاف السماء على الأرض، تخبئ مفاتنها من الحسد، على الرغم من أن الناس هناك تحرروا من هذه الثقافة، وتداخلوا مع الطبيعة، مثلما تتداخل الأجناس البشرية، عندما يرتفع نداء الحب من بين الثنايا، ليعلن وحدة الوجود.