لو افترضنا أن الأرض تخلت عن تضاريسها، وتحررت من الحدود وأخاديد الجغرافيا، وأصبح العالم بدوله وأيديولوجياته وسياساته وأفكاره ولغاته، منطقة منزوعة الفوارق، ماذا سيحدث؟
بداية سوف ينتهي الحقد، لأنه لن تكون هناك أنا وأنت، بل سنكون نحن، هذه الـ«نحن» سوف تجوب القارات الخمس، وتعلن الصفح عن الماضي، فلن نحاسب الآخر على ما فعلته أفكاره الاستعمارية بعالمنا العربي، ولن يحاسبنا الآخر ما فعلناه في الأندلس، وسوف نتحدث عن المستقبل، وكأن العالم بلا ماض، وكأن التاريخ يبدأ من لحظة إيماننا بالتضامن، وكأن الحياة بدأت من هذه اللحظة المضاءة بالحب، والفائضة بعذوبة الإحساس بأننا جميعاً من حبات هذا التراب الذي ننعم بخيراته وجزيل عطائه.
لو افترضنا أن الإنسانية بلا أعراق ولا طوائف ولا إثنيات ولا أفكار مسبقة، لو افترضنا أن البشر خلقوا للتو، ومن دون تاريخ ولا حروب ولا أطماع ولا دسائس ولا احتقان، لأن الـ«نحن» تجاوزت حدود الأنا الضيقة، وقضت على أمراضها وأدرانها وخداعها ومكائدها وشحناتها العدوانية ودخانها الأسود الكثيف.
لو افترضنا ذلك، فلن يحتاج البشر إلى الحروب كي تطغى فئة على فئة، أو دولة على دولة، لن يحتاج البشر إلى عقد النقص التي تحل بطائفة أو عرق أو لون، لن يحتاج البشر إلى كل هذا الإعلام المراوغ، والذي يحول عقول بعض الناس إلى مكب للنفايات، أو ساحل ملوث ببقع زيتية مميتة. لن يحتاج العالم إلى مغامرات فئوية، ولا مجازفات إثنية، ولا انفجارات عرقية.
لن يحتاج العالم إلى كل هذه الصدامات والمداهمات والمباغتات، والانكسارات والانهيارات، والخيانات والأكاذيب والخداع، لأن الـ«نحن» سوف تقف عقبة كأداء في وجه أي سلوك أناني يحيق بالعالم، وسوف تفشل كل خطوة عدائية، وسوف تفسد كل محاولة لجر البشر إلى التصادم، لأننا في حالة الـ«نحن» نكون في الوجود واحداً، والواحد لا يصارع نفسه ولا يقف ضد نفسه.
وهكذا يفعل التضامن بين البشر، إنه إكسير حياة، ونبع ماء يمنع الجفاف. هكذا يفعل التضامن بين البشر، إنه يزيل التشققات، ويزيح الاحتراقات، ويردع النفور، ويكبح جماح الخيول الجانحة، ويرتب أوراق المشاعر، ويهذب صفحات كتاب الحياة، ويثري الوجدان الإنساني بالمعاني الرفيعة، ويجعل العالم يعيش في رفاهية سلوكية وثراء أخلاقي ورخاء ثقافي، هكذا يفعل التضامن بين الشعوب لو آمنّا به، إنه كالسحر يملأ القلوب طمأنينة وسلاماً ووئاماً وانسجاماً.
المهم في الأمر أن ندرك أننا نعيش على الأرض، كبحارة يشقون عباب البحر على ظهر قارب واحد، ما يصيب أحدهم، يصيب الجميع.