هناك علاقات لا نستطيع أن نفهم كنهها، مثل علاقة الجار بالجار، ومهما قيل عنها في الأمثال والحكم والتعاليم الدينية، ففي دين السماحة أوصى النبي وظل يوصي بحق الجار على الجار حتى ظن المسلمون أنه سيورثه، وفيما قيل من مثل عربي: «الجار قبل الدار»، وفي أمثال شعوب العالم: «من كان لديه جار طيب، باع داره بثمن غال»، وحتى أخلاق العرب قبل الإسلام تلزم الإنسان أن يكون وفيّاً وناصراً لجاره، وقول الشاعر والفارس عنترة بن شداد يلخص تلك الفلسفة العربية القيمة:
وأغض طرفي إنْ بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
لكن علاقة الإنسان بجاره تظل من العلاقات الإنسانية بالغة التعقيد، وتختلف وفق الثقافات، ووفق الأماكن الجغرافية، والتي في مجملها علاقات تسودها المودة والتعاون والاحترام، إلا ما ندر، وفي المناطق التي ما زالت على فطرتها وسجية طبيعتها البدائية، تزداد تلك القيم الإنسانية لترتفع إلى درجة الإيثار، وتقديم الجار على النفس، والحماية والدفاع، بحيث يحلّ الجار مكان الجار إنْ غاب أو حضر، وفي مجتمعنا القديم كان الجار يؤدب ولد جاره، ولا يرضى العيبة في بنت جاره، ويتقبلها الجار الآخر برحابة صدر لأنه يعتبر جاره مثل أخيه، وله الحق في التوجيه والتربية والإرشاد.
طرأ عليّ الموضوع حينما كنت أتحدث مع صديق لي من هولندا توفي جاره مؤخراً، ونقل لي الخبر دون أي تأثر، ولا تعبير واضح عن الحزن، لأنه كان يتوقع له تلك النهاية القريبة من مراقبة أيامه الأخيرة، حيث يعيش عزلة مميتة، ولا يخالط الناس، ولا شوهد يضحك من قلبه في يوم مشمس، كان وقع الخبر عليه مثل سماعه عن هزيمة نادي «سانتوس» البرازيلي مرات متتالية، لا ذكر محاسن الموتى، ولا الترحم وطلب المغفرة له، ومسامحته دنيا وآخرة، ولا إكرام الميت دفنه، مثلما هو الحال عندنا، فقط تذكر أنه كان معه في غاية اللطف، وقد حاول أن يلاطفه أكثر من مرة، حينما يلتقيان أثناء التبضع من البقالة، لكنه كان جاداً أكثر من اللازم، وخلال مدة الجوار كان في الغالب ذو تصرف غير طبيعي، وكان كثير الشكوى من شيء لم يحدده بالضبط، وأن زوجته كانت أكثر لطفاً منه، ولهذا كان كثير التذمر منها، كلمة صديقي الهولندي الأخيرة عن جاره بعد تأبينه: إنه أراح نفسه، وأراح جيرانه، فقد كان يشكل على جيرانه خطراً، ولا يمكن التنبؤ بردات فعله المتقلبة، أما نحن فنكون متضاربين مع الجار، وبيننا ما صنع الحداد، لكن ما أن نعلم بحالة وفاته أو وفاة أحد أقربائه ننسى كل شيء، ونظل نستغفر له، وندعو أن يثبّته عند سؤال الملكين، وأن ينير قبره، ونبقى نقرأ على روحه الفاتحة، وما تيسر من القرآن الكريم ثلاث ليالٍ، ونحلف على أهل الجار أن لا يركبوا قدراً طيلة أيام العزاء!