من يتابع اليوم شاشات التلفزة، يصاب بالدهشة، وهو يسمع ويرى ما يراه النائم في منامه، من مفكرين، ومحللين، وباحثين، ومفسرين، ومؤولين، ومنجمين، وعرافين، كل هؤلاء يستشرفون المستقبل العربي، ويقرأون فنجان الإنسان العربي، ويرعدون ويزبدون، ويهدرون، ويزأرون، وينعقون، وينعبون، وينقون، ويشهقون، ويمارسون التنويم المغناطيسي على العقول، فيصدق من يصدق، ويصفق من يصفق، ويكسر كؤوس الشاي من يكسر.
وبعد كل هذه الطواحين الهوائية، التي تدور من حولك وأمامك حتى تشعر بالغثيان، تتوقف برهة لتسأل نفسك.
يا ترى، بعد كل هذا العجيج، والضجيج، ألم يبق أمامنا من حل لخرابنا، العربي، ويبابنا، وسرابنا، وعذابنا، وبكائنا، الذي لم تجف ينابيعه، ولم تكف نغماته عن تلوين تاريخنا بالجروح الباطنية.
إن هذه العبقريات التي تحتل مساحات واسعة من الأعلام كما تسطو على العدد الوفير من العقول، وأصبحت مثل الوباء تعيث فساداً في الوعي، وتدمر أعشاب الغابة، وتفتك بأشجارها.
هذه العبقريات التي تمتلك من البلاغة، والنبوغ في الكذب والافتراء، هي التي جمدت العقل العربي، وحولته إلى قطعة ثلج تذوب في قالب معدني صدئ، حتى يتحول الماء الذائب إلى سائل نتن، يلوث، ولا يبعث الروح في كائن شظف، كلف، تلف، مادت به الأرض، ومارت الجبال، على رأسه جراء ما يسمع، ويرى من تهويمات، وعزف منفرد على عود القضايا الضائعة، والأزمات المتفاقمة، والكذب المرصوص على جدران العقل.
المحللون يوسعون من رقعة الكذب، والسذج يهرعون إلى ملاذات مفرغة عندما تستهويهم ما يلفق، وما يتدفق من مياه المواسير، التي تغرق، وتسرق العقول، لأن المحللين لديهم قدرة تدويل الأفكار، وتحويلها إلى سيمفونيات، تتناغم مع سذاجة السامع، وتعبه أيضاً من المصطلحات الضخمة، التي ترن في الدماغ، حتى يكاد ينفجر من شدة الرنين، ومن تكرار الطحن، وتبذير الطحين.
ورغم كل ذلك لم يتوقف التحليل، ولم تطو الشاشات المروجة لهذه الجثامين، عباءتها وترحل، بل لا زالت، تطحن، وتعجن، وتجلد العقول بعصا الخرافة، وتسوق منتجاتها في سوق السذج، وتملأ الجعب، بكل ما صخب، وعطب، ولن تتوارى الخرافة ما دامت هناك أوعية تحتمل إخفاء هذه الحثالة، بل وتستلذ بها وتنتشي بها.