لم يكن الشعر يوماً خارج فضاء ولغة وواقع ومضامين زمانه ومكانه. كما لم يكن إيقاعه وصوره وبلاغته سوى رجع صدى لإيقاع الحياة في الزمن الذي يبدع فيه. القصيدة العمودية ببحورها ووحدة أوزانها وقوافيها، ومفرداتها ودلالتها واستعاراتها، كانت انبجاسا وتمثلا لواقع عاشه الشعراء، في لحظة إبداعها. ليس قبلا ولا بعدا. لم يكتب شعراء ما قبل الإسلام وبعده، قصائد نبوءة للعصور التي تلت عصرهم. ولم يجعلوا من القصيدة العمودية بموسيقى بحورها وأوزانها وقوافيها وغاياتها مدحاً وهجاء وغزلاً، مسطرة قياسية لكل العصور. وإذا كان لكل عصر قيمه وبلاغته وإيقاعه وذائقته ومضامينه وقضاياه.- وهذه بديهة ترتبط بقانون التطور والتغيير- فإن شعراً أبدع في عصر سابق لا يمكن أن يكون قياساً راسخاً لكل العصور. كما أن المتلقي الذي تشكلت ذائقته الشعرية في عصر ما، لا يمكن أن يكون هو ذاته في عصر آخر. فإذا كان كل زمن يلد إبداعه وذائقته ومضامينه، فإن كل إبداع يحاول أن يجيب على أسئلة زمنه، ويستجيب إلى مؤثرات ذلك الزمن والواقع، ويسعى إلى الكشف والتجريب، والبحث عن طرائق الوصول كي يبعث بإشارته إلى الزمان والمكان الذي انبثق منه. لا إلى أزمنة سابقة عليه ولا إلى أزمنة لاحقة.
والسؤال هنا يطرح ذاته تلقائياً: لماذا يصبح إبداع زمن سابق قياساً راسخاً ومؤبداً لعصور تليه وأزمنة خضعت بالضرورة لقانون التطور والتغيير؟
الإجابة على سؤال كهذا تكمن في وسائل عديدة منها: أن يرفع النص الشعري والإبداع إلى مستوى المثال ليصبح النموذج الصارم المثالية والقياس وله حق الاحتفاء به، كما نرى في مهرجانات الشعر اليوم، لكن الوصول إلى مستوى المثال لا ينهض به النص أو مبدعه، بل أولئك الذين يتلقونه بذائقة زمن النص، ويخلعون عليه مظاهر التبجيل ويتناقلونه عبر وسائط التوريث إلى الأجيال اللاحقة. كالحفظ والتلقين والتكريس والاحتفاء، ورفض كل مغاير ومختلف يأتي به الزمن اللاحق عليه. وهذا التكريس المتعدد للوسائط لا يمكن أن ينجح في مصادرة حق الآخر في التجديد) سيرورة الزمن والتطور. وسلطة التراث لها أقنعة بارعة. فمرة في تهميش المجددين في النص الشعري، ومرة يصبح الخروج على تراث الأسلاف الشعري خروجاً على المثال والنموذج والقياس، وله ثمن باهظ على الشعراء الذين ينتهجون الحداثة والتجديد في الشعر والإبداع الأدبي وفق معايير التطور!