لدى البعض جرأة غير طبيعية في الاستخفاف بأمور لم يجربوها قط، بالكاد سمعوا عنها. والاستخفاف، كما نعلم، أولى علامات الانغلاق الذهني التي يبديها الفرد تجاه ما لا يتفق معه، وهو بطبيعة الحال بداية لحالات تسفيه أصحابها ثم رفضهم وإقصائهم مهما كان نوع الاختلاف معهم. ومن هنا يأتي التواصل المستمر عبر الاطلاع, والتعرف على تجارب الآخرين، عن طريق قراءة أحوالهم -عبر الأدب مثل- فرصة لنمو ما يطلق عليه «التقمص الوجداني»، أي وضع النفس في بيئة الآخر وظروفه، والتجرد - قدر الإمكان- من الأحكام المسبقة.
إن الاستماع بهدوء والاستسلام (غير مصطنع) لفكرة تختلف معك كلياً، هو الدليل الحقيقي الذي يمكن أن تؤكد فيه لنفسك بأنك صاحب «عقل منفتح». والحقيقة أني تجرأت وكتبت هذه الفكرة، كوني أبحث عن طريقة خاصة لقياس انفتاحي العقلي باعتبار ذلك سمة أساسية لتحقيق الفعل الثقافي. أكتب هذه الطريقة، وأنا متأكدة أني أجاهد نفسي كثيراً في محاولة تحقيقها، ولكن عليّ الاعتراف بأن الطريق مازال طويلاً لبلوغ ذلك.
لقد وجدت في القدرة على إبقاء فكرتين متعارضتين في العقل في الوقت نفسه، دون وجود اضطراب داخلي أو خارجي، يعد أمراً بالغ الصعوبة، وقدرة لا يملكها أي كان، كما أن الاعتراف بعدم امتلاكها شجاعة، وبداية في الطريق السليم إليها؛ خصوصاً أن ذلك يعد اعترافاً بقصور، وتأكيداً على وجود نقاط ضعف في النفس، ودعوة لإفساح المجال للتحرك والتعلم من دون دفاعات وأسلحة وهمية وحجج واهنة.
علينا أن نتصالح مع فكرة عدم معرفة «كل شيء»، بالأصح علينا أن نتصالح مع جهلنا، وأن نتعامل معه بلطف أكثر، أن نظهره بلا تحفظ، وأن نتوقف عن الرهاب من اعتقادات الآخرين فينا بأننا «لا نعرف». ولكن في المقابل، يجب أن يتزامن ذلك مع سعي أصيل وجاد في التعلم والمعرفة. وفي هذا نجد الكثيرين من العلماء وممن بلغوا أعلى درجات المعرفة في زمنهم، كانوا أكثر تواضعاً وهدوءاً في تقييم ما يعرفونه، وأكثر جرأة في الاعتراف بما لا يعرفونه.