مذعناً للعاصفة، قلتُ أنحني عند مرورها لعل طباعها في الغدر تُصيبُ غيري، لكنها هبّت من اتجاهات الدائرة كلها، وبعثرت علناً استقامتي وخطاي. ثم جاء رجلٌ بعكازين كانا في الأصل جناحين وقال لي: الريح مأوى السائبين فلا تكن منهم، وإياك أن تسابق الهواء لأن خط نهايته الهاوية. تعال وجالس السكون تمُت مطمئناً، أغمض عينيك كي تصغي إلى صمت الأكوان البعيدة، وافتحهما كي تشعُّ من روحك بهجة أنك حيٌّ الآن هنا. لا يُعكّر الظلام صفو رؤاك، ولا تحفرُ الذكريات أظافرها في الصفحة البيضاء التي تقرأها أمامك. حدث هذا عندما فتحتُ نافذة كانت مقفلة بسؤال، بعلامة استفهام حديدية علقّها الخائفون من الضوء وأجلسوني تحت انتظارها. ورأيتُ يومها أن أبي وأمي فردتا بابٍ للخروج من قفص البدايات، وأن المدرسة هي ملعبُ الكلمات الضالة، والشوارع أنهار إسفلت. لم أتيقن من شيء إلا ورأيت نقيضه ينمو في روضة الشك. جاءت الفتاة التي أحببتها طفلاً، لكن صورتها تلاشت سريعاً وراء الستائر والنوافذ المغلقة. جاء أصفياءٌ وهمسوا في روع قلبي بالطمأنينة، لكن دجالين علا صراخهم في المنابر، أججوا رقصة الارتباك في مشيتي، وسيجوني بالذنوب وعداً بأن مصيري النار، ومصير خطوتي الرماد. ورغم ذلك، لذّ لي القفز فوق الأسوار الشائكة، واستطعمتُ حلاوةً في جرح النزوح من مناطق الظلال. ورأيتُ أن من سبقوني إلى الأحلام لم يعودوا منها أبداً، ظلّت حبيبتي هناك على أرجوحةٍ بانتظاري، وظلا، أبي وأمي فردتا بابٍ مشرعٍ لعلي أفيقُ يوماً وأتبع ما تاقت له روحي.
الآن، في قيلولة الخلاص من تلك النواشز الأولى، أسير سعيداً في بلادي السعيدة. أركبُ سيارة المستقبل، ذاهباً إلى ما يجعل الإنسان نقطة ضوء في مدارٍ لا ينتهي. رميتُ صرّة الكتب الثقيلة من على ظهري، وخزنتها في بريدٍ إلكتروني. لا أحتاج سبورة ولا ورقة، ينعكسُ وجهي على زجاج البنايات اللامعة كأنها كلها ملكي. وأسمع من بعيد في رياض الأطفال نشيد المحبة متلواً بصوت أطفالي. هكذا بدلت الأيام ثيابها وتكحّل الصبرُ بالمنال. وهكذا سقطت الستائر القديمة عن تمثال الأمل، وبدى واضحاً أن الحياة إذا استعصت عليك يوماً، فإنها بعد حين تبتسم. وقد تقرأ مثلي في جريدة الضوء، بأن الحب أصبح طابع بريد، وأن صورة من تُحبها صارت ختماً على شهادات التخرج من جامعات اليقين.