لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تلتقي الوجوه ذاتها بعد غياب طويل، هذه حقيقة. قد تلتقي ولكنها لن تبقى على حالها؛ للزمن كلمته التي لا مهرب منها على ملامحنا، ولكن القلوب لها حكم آخر. هذا ما اعتقدته أو ما رغبت في اعتقاده، والذي سأبقى على قناعة به -على الأقل حتى كتابة هذه السطور- كون القلوب لها حسابات أخرى. فالقلوب الصادقة تبقى على حالها مهما تغيرت الملامح وأخذ الزمن منها حقه، إلا القلب فلا حق له عليه، سيبقى عصياً.
لهذا كنت أثناء قراءتي لرواية «النبيذة» للروائية أنعام كجة جي أكثر شوقاً من «منصور البادي» للقاء حبيبته «تاج الملوك» بطلة الرواية، التي ظل وفياً لحبه لها لأكثر من خمسة عقود. ترقبت لقاءهما الثاني بلهفة سنوات غربة «منصور» في فنزويلا وحنين «تاج» الذي جمعته في عواصم العالم التي زارتها ثم وضعته في صندوق أسفل سريرها لعقود طويلة. ترقبت لقاء فيه من البوح ما يُعوض سنوات البعد، وما يستحضر رسائل العشق وأشعار الغزل المتبادلة، وما يؤكد فرضيتي بأن القلوب في حصانة لا يطالها الزمن.. ولا سطوة له عليها!
ترقبت ذلك بشوق، شديدة اليقين بأنه سيحدث، فكل المعطيات تؤكد ذلك: وعي «منصور» بحجم السنوات، وإدراك «تاج» لتغيرات الزمن ورفضها المستمر اللقاء خوفاً على صورتها القديمة أمام حبيبها والتي بقيت معه بعد أن التقطها لها -بكاميرته الأثيرة- وهي في باخرة السفر مغادرة كراتشي؛ وإصرارهما على المراسلة، وما يزيد على ذلك رد «منصور» على «وديان» عندما أخبرته من تخوف «تيجان» لقاءه بقوله لها: سأراها بعين قلبي.
وحدث اللقاء الثاني الذي لم يكتمل، اكتفى «منصور» بنظرة من بعيد لعجوز في التسعين رآها «متصابية متغضنة عجفاء وحيدة» وفر هارباً وكأن شبحها سيلاحقه.. وليس في باله إلا ذاك السؤال: «كيف لم أفهم قسوة الزمن؟» هرب «منصور» ولم تدر «تاج» بحضوره، فر وتركني في حيرتي ويقيني الذي بعثره بكل جلافة، أتساءل أين عيون القلب؟ حب الأرواح عندما تفنى الأجساد.. هل هو وهم؟ أم أن للقاء الثاني قوانينه الخاصة التي يحكمها الزمن ويطبق عليها، أم للرجال قلوب لها عيون لا تشبه عيون قلوب النساء!