تعاني الثقافة أيضاً من كورونا العقل. بيننا نفرٌ كثيرون مصابون بهذا الداء منذ زمن، ولا ينفعُ معهم الكيّ ولا النصح ولا الوقاية. تبدأ أعراض الكورونا العقلية بضيقٍ في الخيال، يصحبه سعال في التعبير، وارتفاع في درجة الجهل. ومثل هؤلاء يصعب علاجهم بالحوار والمنطق، فتراهم متزمتين طوال الوقت، يظنون أنهم يمتلكون الصواب والحقيقة والمعرفة، لكنهم في العمق أسرى الخواء الروحي. ومن علاماتهم أن الرجل إذا أصيب بهذا المرض، يبدأ بالاختناق من الانفتاح، وتؤلمه أغنية الحرية، ويقضّ مضجعه القبول بالآخر، وتبدو له كلمة مثل (التعايش) غامضة المعنى وصعبٌ استيعابها. ثم سرعان ما تراه يُصدر الأحكام ضد البشر، وكأنه قاضٍ على الإنسانية كلها. ومثل هؤلاء، حين يجتمعون على موائد الكراهية، وحين يغذيهم السماسرة بسلاح التحريض، يصبحون آفة ضد الناس جميعاً، ومصدر تهديد دائم للأحلام الجميلة، وانتشار أفكارهم في المكان، يعني الموت المحقق والقتل والدمار.
أيضاً، ينتقل الكورونا إلى الذاكرة فيقتل الجميل منها، ويُبقي على الآثمِ والمؤلم والمعتم. وبدلاً من إمعان العقل في سيرة الماضي، تجد المصابين بكورونا الذاكرة يفتشون في كتب التاريخ عن فتاوى القتل، وعن المثال الذي يتيح لهم إلغاء الآخر ونفيه بحجة الدفاع عن الحقيقة. لا يذكر هؤلاء محاسن أي شيء، ولا تقرأ قلوبهم الميتة سوى الصفحات السوداء. لذلك تراهم يشبهون الخفافيش التي تعشعش في العتمة والظلام، وتقتات على الصدى بدلاً من الأصل.
يوغلُ كورونا أيضاً في القلب الجبان، وانتشاره يعني ارتفاع الحنق في النفوس، وتفشي الكراهية. عندما تصادف شخصاً يكره الحياة، ويلقاها بوجهٍ عابسٍ وشفاه متبرمة، فذلك يعني أن فيروس الكورونا قد تفشى في معاني وجوده وأعماه عن رؤية الوجه الحقيقي للحب. وبدلاً من التغني بجمال الحياة وعذوبة أيامها، يظل هذا الشخص يتآكلُ في وحشة الندم، وتبلعه الحسرة، ويُفتتُ الخوف صلابة منطقه وقوافيه.
الطامة الكبرى حين يتسرّب الكورونا إلى الروح، وساعتئذ يخرج الرجل المصابة روحه على الملأ ويصرخ: لا للأمل، ثم يحمل سيفاً لقيطاً من بقايا الحروب، ويبدأ بطعن الأشجار لأن ظلالها الطويلة تحمي الغرباء وعابري السبيل. وقد تراه يحمل صخرةٍ يدحرجها أولاً من جبل الكراهية، ثم يسدُّ بها نبع الحقيقة، كي لا يشرب منه المختلفون عنه في الدين واللون واللغة والجنس.
ما أقسى أن تكون الروح معطوبة، ويكون الجهلُ فيروس كورونها.