بعد أن تختم قراءة كتاب ما، تحاول أن تلِّخص ما قرأته، حتى تضع كتابك في خانة الكتب التي انتهيت من قراءتها، و«تمثال دلما» رواية جميلة وتاريخية، تغوص بعيداً في الأزمنة التي رحلت، مثل رحيل التاريخ البعيد جداً، والذي لا يمكن قراءته غير أن تكون باحثاً أو متخصصاً في علوم التاريخ والآثار، وقادراً على نبش أسرارها، وعمل الرواية مزيج بين الدارس والمتخصص في علوم الآثار والتاريخ، وصاحب القلم الأدبي القادر أن يسكب كل تلك الأحداث والشخوص في سرد روائي جميل، إنها الروائية ريم الكمالي، شابة تفاجأك باختلاف تفكيرها وعملها واشتغالها عن سائر العناصر النسائية.
عندما تعيد قراءة محصلة ما انتهيت منه، تبرز خريطة وخيوط سير الأحداث التي قدمتها الرواية، وعندما تتبع تلك الخطوط/‏‏‏‏ الخيوط، تصل إلى أن رحلة العمل شبكة من المسارات جرت فيها حكايات تبدأ من البصرة القديمة، وهي المدينة أو المكان الذي حفظته ذاكرة أهل الخليج، وظهر في أمثالها الشعبية: «اللي ما يشوف البصرة يموت حسرة».
خط السير هذا يمتد إلى دلمون القديمة، وهي أيضاً لا تقل في الشأن والأهمية عن البصرة، ثم تأتي جزيرة دلما، لتبدأ حكاية تمثال دلما التي تقدمها الرواية بأنها منذ غابر التاريخ، محطة ومنارة تتوسط بحر الخليج العربي، لتمد الناس وسكان كل المحيط في هذه المنطقة، الخليج العربي والجزيرة العربية، بالحياة وعبق التاريخ حتى قبل الديانات العتيقة، وتوضح الرواية عبر الشخوص التي تحكمت في الناس وحياتهم في هذا المحيط الواسع، وعبر انتقال المعرفة والكهانة والعبادات القديمة، وأيضاً التحكم في مقدرات المدن والجزر، من البصرة إلى جزر فيلكا، ثم دلمون ودلما، وأخيراً في شبه جزيرة أم النار.
خرجت من كل هذه الأحداث والحياة التي رسمتها الرواية، وأبدعت في سكبها الأديبة ريم الكمالي، بأن شبكة التاريخ والتواصل التاريخي والتراثي، بالإضافة إلى الأحداث القديمة جداً، مرّت عبر خيوط ومسارات، تشبه ضخ الدم في الجسد من البصرة إلى فيلكا، دلمون، دلما وأم النار والعكس.. هذه الخيوط والمسارات القديمة، هي التي صنعت تاريخ المنطقة المهمة جداً في بحر الخليج العربي منذ غابر التاريخ.
ومن اللافت والمهم، أن كل هذه التواريخ والحياة في هذه المنطقة عندما تعمر وتزدهر، تأتي قوى توسعية تدمرها، ولقد أظهرت الرواية انهيار وتشتت الحياة في دلما التاريخية، في غزو واجتياح تلك القوى التي جاءت من الشمال على يد القوة التوسعية «أخذوا يترقبون هجوم الأكد على جزيرتهم.. يقتربون بوجوههم المتعطشة لدلما.. دخل الجنود أرض دلما»، مما أزاح كل أثر، وشرد الناس والعباد والكهنة، حتى أصبحت الجزيرة/‏‏‏‏ دلما جزيرة جرداء مثل سائر الجزر في الخليج العربي القديم..