علا جناحك حتى صارت الأرض تحت ارتفاعك سنبلة، وثمرٌ بطعم النسيانِ سقط من أشجارها، وملاذٌ أصلهُ منفى صار اللجوء إلى زواياها، وحريةٌ أصلها قفصٌ صار الكلام. فلا تنعس لأن ليلك قد تأخر فجره، ولا تأمن لتحية الحطّاب إذا بابك من صنعهِ. أنت سجين المفاتيح الضائعة، أنت عطلة خصمك إذا تراخت نواياك. وسواء رأيت الحقيقة رأي عين، أو زوّرها المنافقون في صورة كل ما يلمع، ستظلُّ عطشاناً للخلاص من كل ثقل. من الجسدِ أولاً وهو الجبل الذي أنت محبوسٌ فيه. ومن العقل الذي يؤرجحك على هواه وتتلاعب أفكاره في صفو يومك. ثم عليك الخلاص من الرغبة عندما تتأججُ، أو تكون خفيّة ولا تشعر بوخزها، لكنها تطعنك في الخاطر الدفين إذا مرّت امرأة يسترها الحرير، أو إذا نخر العطشُ عروقك والنهر بعيد والمطر بعيد. وفي الرغبة سرور هلاكك، وفي ضيقها حشرُ اتّساعك.
تُرى، هل أثقلتْ يدك الخواتم حتى لم تعد قادراً على رفعها في تلويحة الوداع؟ هل سُدّ فمك بكلمة صهٍ واختفت من على لسانك أغنية أنك حيّ؟ وإلا من يفسّرُ اختفاء القصيدة من حائط النسيان. من يدلنا إلى الدرب الذي لا يلتوي، وإلى الكتاب الذي لا ينتهي، وإلى الباب الذي تقبع الحرية خلفه بانتظارنا. من غيرك أيها الشاعر وقد رأيناك من قبل تقطف القمر من فوق القصور الفارهة، وتدحرجه كرةً بيضاء في ظلام المظلومين. وسمعناك تئنُّ إذا لوى أحدٌ عنق الكلمة وأجبرها على الشربِ من عرق النار. وما تفتّحت وردةٌ، أو فاحت، إلا وفي عطرها شيئاً من رذاذك. فادخل في وجودنا رمزاً نسابق به خيول الخيال. وادخل في كلامنا قلماً نطعنُ به فقاعات الزبد. فلقد انتظرناك بدفاترنا المفتوحة واقفين على طريق الذهاب إلى المعنى الأخير.
ها هي رسائل الصبر مزّقناها ورمينا قشورها للجفاف. ها هو البحر غطّيناه بمليون جريدة ولم يُبعثُ في الأكوان نبأ وصولك إلى عتباتنا. كتبنا مرثية المستقبل وصدّقنا أن الحقيقة يمكن أن تكشف عن زندها يوماً، ويوماً ربما نعرف أصلها. لكن الحقيقة مخبوءة في الصمت الذي يلفّ غموضها. ولا يمكن أن تُرى ناقصة، وهي لا تنطقُ إلا بسيل ترانيمٍ كلها همسٌ، وبعضها جنوحٌ للصراخ، وقليلها فقط ما يفيضُ من دم الشاعر ويصبحُ فماً في تغريدة كل جناح.