قلما يطلب الناس النصيحة، فكل منا يشعر أنه يفهم في كل شيء، وكل شيء رهن إرادته، وكلما توفرت مثل هذه القناعة، كلما وقعنا في الأخطاء، وكلما تراكمت أخطاؤنا، كلما ازددنا تورماً، وإدانة للأخطاء، وليس لأنفسنا، التي احتجبت عن طلب النصيحة، وتمنعت، وتزمتت، وتوغلت في خوض المآسي وعملت على تضميدها بالشكوى بعد أن يقع الفأس بالرأس.
الإنسان أناني إلى درجة الانقباض، والسير على متن عربة، تخضه خضاً، وترضه رضاً، ولما يشعر بتهشم عظامه من أثر الاكتظاظ بين حفر الطرق الشائكة، يرفع رأسه، إلى الفراغ، فلا يجد إلا كومة من قش المعضلات، تخفر رأسه، وتحفر في جمجمته حفراً سوداء، لا يرى من خلالها سوى أشباح، تغرس في ذهنه أشواك البؤس والنجوى التي لا طائل لها.
الإنسان مستعد لتقديم النصائح، في كل ما يعرف وما لا يعرف، ويكون فدائياً، ومندفعاً، في خوض ما لا يعرف أكثر من كل شيء، فقد ينظر في كل العلوم، والآراء، فيكون طبيباً، ومهندساً، ومدرباً رياضياً، وفلكياً، بل ويكون موسوعياً ساعة وجوده في مكان غير مكانه، وتخصصاً غير تخصصه إنه كائن من نوع القدرات الفائقة، والشمولية، إنه كائن شمولي في الأساس.
هذه معضلة بشرية، ساهمت في تفاقم الموج، وحدوث الطوفان، وإغراق سفن الحياة وموت الأشجار، لأن الإنسان لا يقول لا أعلم، ولا يتقبل الجهل في الأشياء رغم جهله وسذاجة معرفة في أمور لا يفقه فيها غير العناوين، والمصطلحات.
ما يغرق الإنسان هو البحر الذي يلجه، من غير إجادة للسباحة، وما يهلك الإنسان، هو أناه التي تمسك بذراعه وتقول له إنك تعرف كل شيء، فاذهب في الحياة، وحطم فناجين قهوتها لترشف أكثر مما ينبغي، تقول له اذهب إلى الوجود، وأنت أعمى كي لا تعرقلك الثوابت، فالعميان معفيون من العقاب، اذهب ولا تتورع أبداً، فأنت الحاكم لهذا الكون، ولا تصدق كوبر نيكس، بل افهم ما أسدى به بطليموس، أن الأرض مركز الكون، والإنسان مليكها.
هذه لعبة من ألاعيب الأنا، أفرزها الدهر، فانطلت اللعبة على الإنسان، فانطلق مدججاً، بحزمة من الأكاذيب، حتى أثقلت كاهله، ولم يعد كالنهر، يجدد ماءه، كي لا يتعفن، وكي لا تموت الأشجار من حوله.