أيتها الروح التي سكنتني منذ كنت نطفة، أي غيب يحيط بك؟ أي غياب تنثرين في وهج أيامي وساعاتي؟ أية أوهام ترجك فتنسحبين نحو عتمتك وعجزي؟ أنا التي كنت نخلتك ووردك وياسمينك.لا بهجة تلوّح مناديلها لي، ولا مسرة تنسل إلى وقتي المجلل بالكآبة والضجر. من غيرك أقتفي ألقهُ وطفولته الأليفة؟ من غيرك يشد خطوي من رمادها ويأخذني إلى اشتعالي وبهجتي؟ من غيرك يهلل لإشراقاتي وانبعاثي؟ من غيرك يضيء مسالكي ويهتف بي: هيا انهضي الآن خذي الصلصال وازرعي، وخذي الحبر وانغمري إلى أقصى مداك في سحر الشاعرية ولؤلؤ القصيد، فهذا مجدك الأبدي، وهذه قيامتك الأكيدة.! من إذن إذا رحلتِ في الغموض وسكنت معطفك الصقيعي سيدفئ برد هذا الوقت لي، ويدفئ برد أصابعي التي يبست في الصمت، ومن سيكنزني كالنهر كي أؤسس نبع أيامي القليلة؟ أيتها الروح التي حمّلتني ما ناءت به الجبال. أيتها التي حطمتِ السفائن كلها ولم تبق لي في لجة اليمّ غير الأصابع تشق الماء في وهن كي أطفو قليلا، كما تطفو الزجاجة وقد سدّت بإحكام على رسالتها، وأسلمت للريح غايتها، وللأمواج. فربما ألقت بها الأهوال إلى ما تشتهي ويُفكُّ طلسمها القديم. أيتها الروح العصية على المساطر والعصي لمَ هدّمت بقايا الظل وهويت بطيش معولك العنيد حتى على الشبر الذي آوت إليه خطى الغريب!
كنت اكتنزتك كجمرة ليس من طبيعتها الرماد. فأي هول غيّر الأشياء وغيّرتْ من طبائعها الجواهر ورمّدتك؟ الأرض واسعة.. قالوا.. لكنها ضاقت عليّ وكبرتُ في ظل الفجائع حتى لم يعد لي غير ومض خافت وسط الضباب. ولم يعد غير الكتاب والحبر والشعر واليأس الشفيف يقود خطوي، كي أرى ما لا يراه الليل من حولي ولا النهار. ولا ما ترسمه الأحلام من برقٍ يراود عتمتي ويشدّني نحو الغياب.
كم غامت الأشياء من حولي واختلط التراب بالزبدْ، والماء ُبالأهوالِ، الظلُ بالهجيرْ ولم تعد لي أحلام أشد عليها نواجذَ القلبِ. ما الذي يجلدك يا روحي إذن؟ تفرين إلى أفق ليس يُدرك. ما الذي يعتريكِ.. صقيع رمل، وأشياء ليست لها ملامح أو تقاسيم؟. ماذا يزلزل صلصالك فتشذّين؟ وماذا يراودك لترخي أجنحتك كالحمامة في هدأة الصبح وتنقّر الغصن بحثاً عن بذرة للحياة. يا هذه الروح من أنت؟ أي لغوٍ يصوغك من الوهم حتى حضور التوهم؟ لماذا اسميك روحي، وأزعم أنك أنتِ أنا؟ وأنا لست إلا جسدٌ كالقوقعة، وأنت مجرد هلام ووهم يرسم خطواتي المتعبة في طرقات الحياة.
ما الذي يجلدك أيتها الروح إذن؟ أهذا المتاه؟!