فاتنة الحروف هي، ينساب صوتها في الأذن بسلاسة الهواء البارد حين يلامس الخدين، تبوح من الكلام أعذبه فتنتشي المشاعر، يرن جرس الشوق والاشتياق والأمل والحنين، يسرح الخيال في الزمان، ويجلب تفاصيل الحب كلها، تفاصيل الجمال كله.
فيروز، سيدة الصمت في هذا الزمان وقبله، حيث الكثير من الثرثرة والسباق لتسجيل مواقف فاشلة تسقط كأوراق الخريف حين تتبدل الفصول والرؤى.
في هذا الزمن بتفاصيله وأحداثه قليلون هم من يذهبون إلى الداخل، داخل الذات ويحصّنونها من السفه والسقوط في الصراخ الأهوج، وحدهم يحدقون في المشهد كسيناريو كتبه مجهول، وعمل يُعرض على جدار متشقق قابل أن يتهاوى في أي لحظة أمام ريح تائهة.
السيدة فيروز من هؤلاء القليلين الذين يحصّنون الذات، حيث تصمت كقديسة اختارت أن تحتفظ بروحها وتحميها من الشروخ، تحمي نفسها كي تكون الأغنية ناصعة كالألماس.
فيروز هذه الفنانة العظيمة والاستثنائية على مر زمان الأغنية، لا تتحدث سوى فناً، لا تقول إلا غناءً عميقاً يرسم تفاصيله في الروح وعلى نسمات الهواء الحارة والباردة.. بصوتها الآسر كعبير الورد ورائحة الأرض الرطبة وأشجارها الباسقات، تلمس القمر والنجوم، تجرب في المستحيل وتغني غناء غير عادي، غير مبتذل وغير ساكن.. إنها تتحدث كثيراً في بحر الموسيقى والشعر، ترسم لأرواحنا طوقاً يجلب الصباح من خيوط الشمس قبل القسوة، ترسل لنا زمن الحلم ورؤيا الحالمين.
فيروز حين ثرثروا جميعاً، عصابات وأحزاباً، تنظيمات وتابعين، أخذت جمهورها، نهضت بهم فتبعوها إلى أعلى الجبل، ساروا حاملين قلوبهم وأرواحهم كي تحميها من زلات واقع قبيح وقاس، مؤلم وقاتل.. تبعوها كي تدثرهم بالصفاء والرحمة، كي تحميهم، تحمي آذانهم من ضجيج المدن والمدعين، كي ترفع ذائقتهم من الموت في الواقع.
فيروز عندما حكت وغضبت وحاورت في معان كثيرة، أدركت بعد ذلك الزمن زمن الأسطوري عاصي الرحباني، ومنصور الشفاف، أن الصمت عن «الكلام المباح» هو الحقيقة الوحيدة لكل جمال يريد أن يرتقي، ويرسم مشهداً خالداً إلى الأبد.. بقت فيروز عزيزة وعالية على كل الزلل، فلك أيتها الساكتة عن الكلام في هذه الفوضى الكبرى تحية من القلب، لك ولرفيقيك الكبيرين كل المجد الأبدي، ولكل من مروا في درب مسيرتك الخالدة.