هلعٌ في ذاكرة العالم، وأملٌ عظيم في قلبه، وأحلام كبيرة صارت تتكسر تحت مطرقة هذا الوباء المخيف، وهي المرة الأولى التي لا يملك فيها البشرُ سلاحاً للدفاع عن أنفسهم سوى التمسّك بالمعاني العالية، بالأخلاق والتراحم ومد يد العون، وبالتضحية أيضاً، يملك الشعراء الكثير في هذه الأيام ليقولوا كلمة أمل، أو قصيدة مواساة تمسح ربما قليلاً على حزن من يعانون، ومن فقدوا الأحبة من غير وداعهم، ومن فرّوا تاركين وراءهم حياة مشحونة بالحب والآمال العريضة.
نرى الخوف، مثل غيمة معتمة صارت تمطر قطنها الأسود على رؤوس الأشجار المثمرة، لكننا بالمقابل نرى الجيش الأبيض من البشر أكبر وأقوى، ها هم الأطباء صاروا جنود الرحمة يصفعون وجه الموت في كل لحظة، والممرضات رئة أخرى للمتشبثين بالحياة حتى آخر رمق، والمستشفيات ثكنات وعدٍ بحياة ستظل مستمرة، حتى لو تجرأ الظلامُ على حجب الشمس، وأبقانا قليلاً مختبئين في البيوت.
في الاختبارات الكبرى، تفيق الإنسانية من وهم جبروتها، وتتفتح عيونها، بعد غفلة، على أن الخلود وهمٌ يُعمي عيون الطامعين الممتلئة بطونهم بالجشع، هؤلاء الذين ظلوا طوال التاريخ، يعملون ضد صالح الإنسان، وضد الطبيعة، حتى تكاثر الدمار ونال من كل شيء، قيم التوادد والمحبة، استبدلت بقيم المصلحة والأنانية، وبدلاً من التكاتف، جرى تمجيد أفكار الفرقة وبيع أسلحة النار، وصار طبيعياً أن تصل البشرية المنهكة إلى منعطف اضمحلالها، إذ لا يمكن أن تدوم قيم الجشع وتصيرُ قانوناً يحكم العالم، وما لم يصارُ إلى تغيير منظومة الرؤى التي تتحكم بوجودنا اليوم، وما لم يجر استبدال نوايا الشر بنوايا الخير، فإن العالم سيذهب إلى لحظة انفجاره لا محالة، وهذا الوباء ما هو إلا صنيعة يدنا التي لم نمدّها، بما فيه الكفاية للحكماء على مر التاريخ، أولئك الذين صرخوا لإنقاذ الإنسانية قبل فوات، وطالبوا ببناء مجتمعات قائمة على العدل، ومنع الاستغلال الجائر للطبيعة، لكنهم سيقوا إلى النسيان، ونحنُ وقفنا نتفرّج على تهميشهم، وسرعان ما انغمسنا في آلة الغفلة الكبيرة التي يديرها سماسرة العالم.
اليوم، رغم هذه الجائحة، يحتاج البشر إلى إعادة النظر في طبيعة علاقتهم ببعضهم، دول كثيرة عرفت في هذه المحنة، من هو الصديق الحقيقي، بشرٌ كثيرون أدركوا أن الحياة الحقيقية هي أن تكون لك أحبة وأهل ومجتمع قائم على المثل الإنسانية، وليس على مبدأ السوق، سيظهر لنا بالتأكيد فلاسفة وحكماء جدد، سيقولون كلاماً قاله السابقون من قبل، لكن هل سيفتح العالم أذنيه هذه المرة، ويصغي لهم؟