لن تعرف الشعوب بعضها بعضاً إلا من خلال جسور الثقافة. فهي اللغة الوحيدة التي يمكن أن يتفاهم بها الناس. وهي الناقلُ الأكبر للقيم الإنسانية التي لا يمكن الاختلاف عليها. حدث هذا سابقاً، عندما نقلت إلينا أوروبا حضارتها الكاملة من خلال الروايات واللوحات وسير العظماء والعلماء فيها. وما يتباهى به الغرب اليوم، ليس أمجاد الحروب الاستعمارية، وإنما الإرث الذي خلفته عصور الأنوار والنهضة التي شهدتها أوروبا منذ القرن الخامس عشر حتى اليوم. وظلت آثارها باقية في المتاحف الكبيرة، وفي الإرث المعماري المذهل. وفي ما تركته الفلسفة من كتب ومؤلفات، تجلّت فيها قدرة العقل الإنساني على تحليل وتفكيك نظرية المعرفة وإعادة بناء أنماط التفكير لتلائم كل مرحلة. والدور الذي لعبته الفلسفة في جانب، أكلمته الفنون والآداب في الجانب الآخر. فصار على أوروبا أن تتسيّد الحضارة لقرون بسبب هذا التداخل وهذا الفهم للحياة والوجود.
تتجه الإنسانية اليوم إلى توحيد علوم المعرفة، وتأكيد شموليتها بحيث لا تعود تقتصر على جغرافيا بعينها. وما تطرحه النظريات العلمية والفلسفات من خطابٍ راهن، إنما يراعي هذه الشمولية ويسعى إلى الانضواء تحت مظلتها الكبيرة وإلا أصبح هذا الخطاب ناقصاً وضيقاً في أفقه وفي معالجاته. ولهذا السبب، تتجه المجتمعات المتحضرة إلى استعادة القيم الإنسانية العليا، قيم المحبة والتعايش والتسامح والصداقة والانفتاح. وتحاول أن تجد لها صيغاً جديدة تفكك من خلالها الكثير من القيم السائدة. هناك فلسفات خاصة بنقد العنصرية تحتل اليوم صدارة التوجهات الفلسفية، وهناك فلسفات ترصد ظواهر التمايز في الجنس وتحاول أن تقرأ آثارها العميقة في المجتمعات الحديثة. خصوصاً في المدن الكوزموبوليتانية التي تختلط فيها الأعراق والألسنة. وهذه الاتجاهات الحديثة هي امتداد للفلسفات البنيوية التي سعت إلى تفكيك الخطاب السلطوي من خلال اللغة، بغية الكشف عن مكامن التعالي والقوة والضعف فيه.
كوامي أنتوني أبيا أحد أهم الفلاسفة اليوم، يعد رائداً في دراسات العرق والهوية. الفيلسوف سايمون بلاكبورن يرى أن الفلسفة ينبغي أن تتجاوز دراسة الفرضيات إلى رصد المشاعر والمواقف العاطفية باعتبارها حقائق. الفيلسوفة جوديث بتلر تطرح نظريات حول الجنس والنقد والنظرية النسوية. وآخرون كثر يسعون إلى الانتقال بالخطاب الفلسفي إلى مناطق أكثر غوراً في ظاهرة المجتمعات، معتمدين على جوهر التفكير العقلي الإنساني الذي قامت عليه الفلسفة منذ البدء.