ظلال الأم وارفة، وصورتها تبقى نقية حتى بعد أن ترحل إلى بارئها.. حينها تستقر في مثواها الأخير قريباً من القلب، ويترسخ هنا معنى الحب أجمل من قبل، كأنه انبعاث وجودي أمام هذا الفناء المتوهج، المسترسل في الحياة بلا حجب أو خفاء. فخروج الروح من الجسد، يبدو وكأنه انبثاق لمعنى ممتد يصل الروح بالروح، فيسطع كنور ينبعث من قلب سواد الحزن، مهما كان ثقيلاً أو رازحاً.
الموت، هنا وبهذا المعنى، لا يبدو مفارقة للحياة، بقدر ما هو تأكيد لاستمرارها. كأن الأم الراحلة تحثك بروحها على مواصلة الابتسام، وكأنها خلّفت وراءها كلماتها لكي تشد أزرك وتنير أوقاتك، وتعيد ربط ما انفك من عقد المجتمعين حولها. هو الحب الذي تعلّمه الأم لأولادها، وتدربهم على السير في دروبه، فيصبح حباً خالصاً من أي عوالق، لا تعرفه إلا الأمهات، ولا تقدر عليه سواهن، لأنهن نبع الحنان العظيم الذي لا ينضب.
حين ودعت والدتي بالأمس القريب إلى مثواها الأخير، شعرت بأنها تركت لنا إرثاً من المحبة والقيم والمثابرة على فعل الخير والانتماء للوطن. تذكرت بأنها لا تسمح لمجرد نقد للذات الوطنية، ولا تقبل بهزل في حديث الانتماء، فهي امتداد للجيل الذي نقش الحياة نقشاً وجودياً، ولم تكتف في حضنا على طلب العلم، بل بادرت هي إلى التعلّم في مدارس محو الأمية، ومن ثم ضاعفت الجهد في تعلم علوم القرآن الكريم وحفظه والامتثال لقيمه.
شمس الوالدة دائماً لا تغيب، وهي التي رسمت سيرتها العطرة لسنين طويلة. لم تهبها الحياة ملعقة من ذهب، فقد حدثتني دائماً عن حياة المعاناة، في زمن كان يثقل فيه العيش، فمن لا يعرف سنوات الشقاء لا يستطيع وصفها كما كانت تفعل هي، فأبناء جيلها هم من رسموا معالم الحياة بين زمنين، ووهبوا للروح معنى مختلفاً وللحياة رصانة وصورة تتقد بالأشياء الصغيرة قبل الكبيرة. هكذا عاشوا، وعاشت هي بينهم، يرسخون قاعدة من القيم للأجيال التي ستأتي بعدهم.
الحياة، بكل ما تحمله وتحتمله، هي المترجم الحقيقي لصفاء النفس وقيمها الأخلاقية.. لذلك أفهم الآن، كيف كانت والدتي تبدأ يومها بضوء رباني مفعم بأمل لا يتوارى.. ولذلك أفهم اليوم الدروس التي حرصت على تعليمنا إياها، فأتقبل رحيلها، رغم مرارة الفقد، كدلالة على استمرار الحياة بآمالها العِراض.