ينظر كثيرون لأنفسهم من خلال ما عرفه العالم عن أجدادهم أو ذويهم، ولا يتصورون كيانهم إلا من خلال عظمة أجدادهم وروعة منجزاتهم. بالتأكيد لم تعد تلك الرؤية -الآن- معيارا يصلح لقياس قوة أو نجاح فرد أو جماعة أو أمة. بل على العكس، فنحن من نسلط الضوء على أجدادنا بما تصنعه أيدينا حاليا؛ فالآخرون لا يبحثون عن تاريخك إلا إذا كانوا يرونك أساساً، ولتصل لهذه النتيجة عليك أن تعمل كثيرا لكي ينتبه العالم لك. ففي الوقت الذي تنجح في لفت نظر العالم لمنجزك، وقتها سيجتهد الآخرون في قراءة تاريخك ليعرفوا كيف وصلت لذلك. فيما سينشغل آخرون في الاستخفاف بك في حالة كان لك تاريخ عظيم.. ولكنك بلا منجز يجعلك مستحقا لهذا التاريخ.
لا ينشط المستقبل إلا إذا فلحنا في التوقف عن اجترار التاريخ؛ فبؤرة الفعل الإنساني هي الفعل في الحاضر لأجل المستقبل، ولا قيمة للماضي إلا بما يقدمه من إنارة الطريق للمستقبل، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال السيطرة على المستقبل وتركه يتحكم في حياتنا ويسلب حريتنا في تحديد خياراتنا؛ لا لكونه من الماضي فقط، بل لكونه قد لا يستحق الثقة الكاملة التي نعتقدها فيه، ولكونه قد لا يكون بذلك القدر من الإبهار الذي وصلنا عنه. وغيرها من المعايير التي تجعل ركوننا إليه غير عقلاني.
الاطلاع على التاريخ بتفاصيله وتحليله، ومعرفة التوجهات التي أثرت فيه ونتجت عنه، أمر مهم وأساسي، ولكنه لا يعني بشكل من الأشكال الهوس به والانغماس فيه، والتفرغ لاجتراره بمفخرة ونصر، والتوقف أمام عتبته على اعتبار أنه سيرسم المستقبل.
إن الأفراد الذين يقفون على عتبات الماضي ويتمرغون بتفاصيله -التي ورثوها دون أن يسهموا فيها بشكل أو بآخر- يسحق التاريخ أمتهم ويتخطاهم بازدراء؛ والأمم التي يتحرك أفرادها بآمال مستقبلية ورؤى متقدمة تتخطى واقعهم وتتحداه، بل وتتفوق على الماضي، هي الأمم التي تستحق أن ينحني لها التاريخ احتراماً وإجلالاً، ويفسح لها مكانا في ميراثه الإنساني.