لدينا صديق يجمع الطيبة، والفطرة السليمة، والسليقة والعفوية المطلقة، والعِشرة الجميلة، لذا لا نفرّط فيه، إذا ما انتخى، وقال: «على ظهورن يا شباب»! وهو تعبير قديم، يستعيره من زمنه الموغل أيام شدائد الإبل، ولكنه يعني به السفر اليوم، جمعتنا مع هذا الصديق الظريف سفرات كثيرة، لكن مثل سفرات لندن التي يستطيبها، ويحنّ لها، لم نجد، يقول: «يا أخوان.. ولا لكم عليّ يمين، ترا يوم واحد يطري لي لندن، تقول يصعطني عسل وسمن الدار على الريق».
لندن التي يحبها صديقنا «أخو شما» لسببين: كما يقول: «لا أحد يسألك وين بايت، ووين مجبل أو وين ويوه الرجاب»؟ والسبب الثاني: كان يحب الملاعب الخضراء واللعب على بساطها المخملي، وكثيراً ما يتغلب بزهره على المحترفين الذين يتضايق من سيكارهم الكذّاب، لذا ما أن يشعل أحدهم ذلك «الصلب المحنّاي» على حد قوله، يصرخ بعفويته: «يعلك أتدوخ البعر يا الله يا بعدي»!
صديقنا الذي يكبرنا، لكنه أكثرنا شباباً، ولا يشكو من ركبة، ولا من وجع ظهر، تعلم الإنجليزية التي يريدها فقط، سماعاً، وعن طريق الخدمة وهو صغير في «رقوق الظنة وحبشان»، وحين يعاود استعمالها تظهر أقرب إلى إنجليزية الصحراء، مثل: «كو، كام، هاو ماج، نو بروبلم».
في البداية كان يحرجني وأمثالي ممن لديهم بعض الخجل التربوي، والتهذيب المدرسي، لكنني أخذت عليه، وهو يعرفني حين أخجل من تصرفه الذي لا يمكن أن تتنبأ به، فيقول: «شو فوه الحين بتحمرّ غزوزه»، ثم يردف بجملته المعتادة: «طبّهم عنك يا ريّال»!
مثلما كان حين يصحو من رقدة العصر الثقيلة، بعد أن «يَبخّ» من ذاك العيش المشخول في المطعم الباكستاني الذي يعرفه كل العاملين فيه، وينزل «لوبي» الفندق، وهو يشكو من صداع، وعيونه «ميفّنه»، ويشعر بمرارة حقيقية في الحلق، وضيق بالصدر لا يعرف من أين يأتي، مع ارتجاع للعصارة الهضمية، نتيجة تلك الخلطة الطيبة بالزعفران ولحمها الذي يمكن أن تمشطه عن عظامه، فيجلس صامتاً، ثم يحك الشعرات المصبوغة منذ مدة، والتي نمت حتى بانت جذورها البيضاء، ويسأل: «ليش تأخر الحلاق اللبناني هو ومعازيبه هالصيف؟ أصبحنا مثل الشواهين بهالشعر»!
لكنه ما أن يجلس ويعتدل مزاجه قليلاً، حتى يسمع تلك المرتدية فستاناً أسود بلا ذراعين تعزف على البيانو، وتلقى ترحيباً مبالغاً فيه من قبل الإنجليز اليقظين، والمهندمين أنفسهم بدرجة عالية من الاحترام، ومن بعض السياح المهتمين بمتع الحياة، يتعكر مزاج صديقنا، ويصرخ طالباً «شاي بحليب»، ويكون الفندق قد صرف الخدمة عن تقديم الشاي بعد انتهاء فترة تقديم الشاي الإنجليزي المعتادة، فيخربط إيقاع النادل المسؤول عن خدمة ضيوف الفندق، وما أن يشرب قليلاً منه، حتى يتأفف: «قم ناصر.. قولها توقف حشرتها شوي»، فنناظره محرجين، فيكمل: «الحين بتقول لي: باخ، وطاخ، وصمباخ»! ونكمل