وكأن روح محمود درويش كانت حاضرة في المكان، تلك الروح الأبية الخفيفة التي تحب الحياة، وتقف مثل وتد لا يتزحزح راسخاً في قلب القضية، في الأمسية التي نظمتها دائرة أبوظبي للثقافة إحياءً لذكرى رحيله العاشرة، درويش كان يجلس في المنصة بين الشاعر يوسف أبو لوز الذي تحدث عن ذكريات جمعته بدرويش في لقاءات متفرقة، والصحفي والكاتب علي العامري الذي تمثلت له روح درويش في نقاط فاصلة، استعرضها للجمهور بكل حرص، وكأنه يقرأ من مخطوطة أثرية ظلّت باقية آلاف السنين، وعُلا الشيخ التي تشدها الصورة السينمائية عادةً، ولكنّ إحساساً قوياً بالظل العالي جعلها لا تملك إلا أن توافق على إدارة الندوة في ذكراه، بل كان درويش بيننا في كراسي الحضور، كان يغني مع السيدات الحاضرات اللاتي رحن يدندن بأغنية «أحن إلى خبز أمي» على عزف العوادة شيرين تهامي في بيت العود، وكان يحني رأسه منصتاً لياسر النيادي، وهو يلقي قصائده برقة ونعومة تارة وبقوة وعنفوان تارة أخرى منازعاً في كل مرة إحساساً يفيض على محياه بقوة حضور كلمات الشاعر الغائب. وكان يضحك وأنا أعتذر بارتباك للأستاذ خالد بن ققة بعد أن سكبت عليه فنجان قهوة كنت أحمله معي أثناء دخولي ووقوفي لاختيار كرسي، محمود درويش كان حاضراً كل تلك التفاصيل بل وقد أعجبه إلقاء الطفل الفلسطيني زياد العمري قصيدته «فكر بغيرك» باللغة الإنجليزية وضحك ودموع تلمع في عينيه وهو يسمعه يقول في لقاء مصور بعد الأمسية «أطفال فلسطين، سوف آتي يوماً وأنقذكم». درويش لم يكن شاعراً حزيناً، كان شاعراً مليئاً بالحياة على الرغم من عمق إحساسه بمأساة شعبه. هل هي «الكاريزما»، كما يوصف درويش دوماً؟ تلك الهالة الخاصة التي تحيط بحضور شخص معين، ولكن أليست الكاريزما مرتبطة بوجود المرء على قيد الحياة ؟ فكيف لا يزال درويش يمتلك كل هذا الحضور بعد موته؟ هل هي كاريزما الشعر؟ الشعر الذي جرى على لسان درويش مارّاً عبر روحه. يأتي شعراء كثيرون ويغادرون، قلة فقط من يستمرون في البقاء مدى الحياة. مضت على رحيله عشر سنوات، رجل فلسطين الأول، فارسها الشعري، الشاعر الذي يشبه فلسطين، أحيت أبوظبي ذكراه، أبوظبي تعرف فلسطين منذ بداياتها، كانت تقف دوماً هناك بالدعاء والرجاء والأمل. يوحد الفن الإنسانية، ونحن العرب نختلف كثيراً، لكن في اللحظات الفارقة توحدنا فلسطين.