رغم أنني لم أكن متحمساً لعزف تلك الإنجليزية الذي لا يشبه سحبة ذراعيها اللندنيين، لكننا حاولنا أن نهدي صاحبنا الذي خلط باخ بصمباخ، خالقين له مسائل لتصرفه عن عزف الإنجليزية غير المتقن كثيراً، لكنه يتذكر بعد دقائق، ويقول بانزعاج واضح: «تراها صمختنا ربيعتكم، تفارقتوا أنتم وياها.. مسَوّين عماركم لندنيين».
صديقنا يضحكنا حينما يتبرع شخصياً بالمحادثة، والذي يشك الإنجليزي الواقف أمامه حينها بمقدرته على السمع، والتركيز، ويفكر مباشرة بأتعاب الطبيب، ووجع التأمين الصحي، أما المصيبة حينما يلاقي أحداً، ويطالعه، فيرميه بتلك التحية، وكأنه كان يلعب معه في صباه: «إكسكيوزمي.. هاور يو»؟ أو حين يربك السائق الإنجليزي المعتاد على الصمت، والذي يفصله عن الزبون ساتر زجاجي، عادة لا يفتحه إلا ليتناول جنيهات أو يرد البواقي بعد قليل من التلكؤ، حين يسمعه يقول كلمات كأنه يفهمها: «أخّر ريلك على الكلج، دقّ لهم هرن، أشخطها بريك»، ينتهي المشوار، والسائق في حيرة، حتى يوصله إلى «راندي فو» الذي يسميه «راندي فيو»، لكنه حين يرشّه بجنهين بخشيش، يجبره على الابتسام والشكر، صديقنا في ساعة زعله من لندن، وخاصة بعد خسارة غير متوقعة وسريعة، وتبديل الـ«ديلر» مرتين، يردد: «إييه.. يا حافظ عليك يا أميركا، والله هناك اللي ما بتسمع أنديد.. كله إيزي»!
يغيب عن لندن، لكن مرجعه هناك، فقد نشأت بينه وبينها علاقة حميمية بحكم التردد، وبحكم معرفته بكل شوارعها، وحدها الشوارع التي تضم المتاحف والمستشفيات يتعوذ منها، فالمتاحف يقول عنها: «ملاحقين تشوفون المحنطين، وحصا الوديان، وباشات وميمات زاتات الديمن والهاس»، أما المستشفيات فيردد: «آه ها تولي إنجليزي عمرك، تراه بيتم يرعى ينبك، وما بيخلي عوق ما بيظهرّه فيك»، مرات رغم تعليقاته الفكاهية، إلا أنها مقنعة أحياناً، خاصة تلك التي تخص المستشفيات.
الغريب أننا إن ذهبنا إلى لندن بدونه، لا تطيب كثيراً لنا، خاصة في لحظات التردد، والإحجام، والخجل غير المبرر من قبلي تجاه بعض الأمور، والتي يختصرها هو بكلماته القاطعة: «لا تتوانى إدغشها بضبعها جان بغيتها، وإلا قالت لك: سوري، وإلا قالت لك: ويلكم، ما هناك أخو بيتبعك بشوزن، وإلا أبن عم ما بينيط لك»!
وقد حاولت في السنوات الأخيرة أن أوجهه إلى بلدان ذات إرث تاريخي، وعلاقاتنا معها منذ فجر الإسلام، والتي تختم مسماها بـ «ستان»، جمهوريات استقلت عن الاتحاد السوفييتي ما تزال بكراً في كل شيء، وهم أقرب لطبيعتنا، ولديهم أجمل ما في الطبيعة من معنى، فقال: «أسمع بقول لك شيء واحد، إذا أبا أخرج في سبيل الله، تراني أعرف، وإذا أبا أروح القنص تراني أدلّ أخير عنك.. روح، ويوم تبوني بتلقوني في لندن»!