حلقت مرّة في المدى ريشةٌ غادرت نسرَها. حوّمت زمناً، دارت على ريح عثرتها. لم تحطَّ ولم يرجعِ النسرُ وكان الفضاء زوبعةً أو مدىً مبهماً أو متاهْ!
قالت هو الحلمُ فاسكنها في السرابْ. قالت هو اللغطُ فلم يرتخي. فراشاتها من دموع الشجر، وعرس احتفاءاتها من عجين. دارت على نفسها دورتينِ ودارتْ. كأن الذي رسمته خطاها مرايا تشظتْ، فأرجأتِ الحلمَ حتى تعود إلى نسرِها في القمم وأرجأت العمرَ حتى نهوض الخلايا، ولكنها جمرتان؛ للترحل الذي شتتها، وللشعرِ راوغها للبعيدْ! سيّجوا صمتها بالضجيج، وألقوا بيقظتها في اشتعال العواصف. لم تحطّْ على سورِ غفوتها، لم تنم في فضاء الحلم، صنعت خيمة من رمال الهدوء، وضمّدتِ الحزن بالياسمينْ. متوِّجةً خفقها برنين الطفولة، وراسمةً للمدى ضوءهُ وللنهار صليل الجداول، للبحر خشخشة الريحِ، ولها شهوةً للقمم! ريشة النسر في توقها هيئة الكونِ، في قلبها هيئة النهرِ، في كفِّها رهج خلقٍ بهي. شدّتْ إليها رداءً من الغيم وصاغت لها منزلاً من غموض الشجر! ريشة النسرِ تراءى لها وفيما يشبه الصحوَ فضّةُ الكونِ تجمَّعُ ذراتها تستطيل على هيئة امرأةٍ في انتظار ولادتها تلفُّ عليها سواراً من المرجان ونخلاً يحف بها، ثم تهبطُ شامخةً، وتهبطُ هادئةً وتهبط عاشقةً في مياه الخليج!
البحار تهيئ أحضانها والنوارس خفقَ أرواحها والمحارُ عناقيد فتنتهِ، والترابُ ترجُّ كوامنهُ بخصب وشيكْ! لم يكن في التراب الذي أوغلتْ غير جرحٍ تشظّى، غير حزن سخيٍ نابتٍ في نسيج الرغيفْ! تلكَ البلاد بلادها وتلكَ بلادٌ لغيرها! أي تلك البلاد بلادي وأي الشواطئ لي وأي رياحٍ تسوقُ خطاي إليها؟! بلاد المحبة مسيجةٌ بالسلام أرخت عليها النساء ثياب التراث وجميل القُبلْ، أم بلاد الذين يستشهدون كي ينهض النخل والياسمين وتنمو على نخلها قطرات العسل! بلاد الأساطيرِ التي نامت نوافذها في مساء طويل وسيّجها قلقٌ، نامت ولم تبعث الريحُ هسهسةً أو صليلاً! بلادٌ لا تشظّي بنيها ولا تبعثرهم في نثيث الرماد! أم بلادي التي لا شبرَ لي فيها غيرُ شبري الأخير، ولا بيتَ لي فيها غيرُ سقف الأملْ! البحر يبكي عليّ والحزن يبعثُ ارتعاشاتِهِ في انحناء النخيلْ، الشوارع مكتظة والأطفالُ ما استيقظوا، والريشة تؤرجحُ أحلامها في انكسارٍ حزين. النسرُ يحلم، واللهُ يرقب حيرته بوعد وشيك! ريشة النسرِ حائرةٌ تحوِّمُ في أفقٍ مبهمٍ تؤسسُ أغنيةً أم تفرُّ إلى توقها في القمم؟ إذ ينامُ النهارُ وترخي النجومُ عناقيدها يلفُّ عليها دثار الهمومِ وشائحه ُوتزهرُ أشواقها في احتدام الهدوء، تبعثرُ أحلامها قطرة، قطرةً، وتشقُّ لها أنهراً من جديد!