ولو تخيلنا أن كل أفراد المجتمع غرقوا في الوقت، وأصبحوا ترساً في الآلة، كما قال الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، فإنه من الراجح أن يتحول المجتمع بأسره إلى ماكينة عملاقة، تسحق تحت أضراسها طاقة الناس، وتمحق مشاعرهم، ليصبحوا هم مجرد آلات، جامدة، وحادة، تقطع الصلة بين الأفراد، وتمنع التواصل الإنساني.
لو تخيلنا المرأة والرجل، منغمسين في طاحونة العمل الوظيفي، ويبدآن نهارهما منذ الساعة السابعة صباحاً، ويعودان في الساعة الخامسة، وهذا في أقل تقدير.
ولنتصور شكل العلاقة التي تربط هذين الزوجين ببعضهما، وكذلك علاقتهما بالأبناء، والذين أيضاً لهم ظروفهم الدراسية، التي لا تطلق لهم سراحاً إلا بعد الساعة الثالثة مساء.
حقيقة من ينظر إلى هذا المشهد، يصاب بالصعقة الكهربائية، حيث النظرة الأولى لوجه الزوجة وهي قادمة من مكان العمل يبدو مثل رغيف حاف، ومشاعرها أشبه بنشارة خشب، وحديثها، كلمات تخرج من فيها مثل أحجار متناثرة على أرض صماء.
أما الزوج، فهو يدخل منزل الأسرة، وقد بنت العنكبوت على محياه المكفهر، شبكة من الأسئلة الغامضة، ينظر إلى الزوجة، كامرأة يصادفها لأول مرة، يجلس على مائدة الطعام، يأكل منفرداً، رغم وجود الزوجة على الطرف الآخر من سفرة الأكل.
الاثنان يتثاءبان، والاثنان يجلسان في المكان الواحد، وكأنهما يزوران منطقة تنفث دخان حرائق للنفايات، فلا يطيقان رؤية بعضها، ويأكلان وكأن الطعام الذي يقذفانه في أحشائهما، مغسول بماء ضحل لا يستساغ.
أما الأبناء الذين غطسوا في الواجبات الدراسية، فلم يعد لهم أثر، ولا أحد من الوالدين لديه الرغبة في السؤال، عن هذا الصغير، أو تلك الصغيرة.
هذه التشققات في نسيج العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة، جاءت كرد فعل على زمن أهدر وأصبح وقتاً ضائعاً، لا يقدم إنتاجاً، ولا يعقد علاقة سليمة، والنتيجة، الكاسب الأوحد هم عاملات المنازل، اللاتي يحكمن مملكة الأسر، وهن اللاتي يقمن بتأثيث المنازل بمشاعر لا تمت بصلة إلى تلك القيم الاجتماعية التي تربى على أثرها جيل لم يعمل بالساعات، وإنما عمل بالانتماء إلى الأسرة، وإلى مكان العمل.
كان جيلاً حالماً، لم تتشقق أشرعته رغم قسوة الريح الصحراوية، ولم تتوقف ركابه عن خوض غمار الرمال الصفراء.