أيقظني المطر، بنثات على النافذة، كنقرات طائر زائر. انسحبت من تحت الملاءة مثل طفل يبحث عن حلمة الشفتين. نظرت إلى السحابة المخملية، كانت تشيع شفافيتها في السماء شرشفاً إلهياً يفيض بالماء. بعد ثوان، شعرت أن خيوطاً فضية تنهمر على الأرض، وتنسج قماشتها، مبللة من وشائج السماء. الطير وحده الذي مد أجنحة باردة، محلقاً بثقل الريش الوهاج، كان مثل قصاصة تنز بالحبر، وتقطر أوراق الشجر، والرعشة تلم رقائقها. الرعد والبرق يغزلان الهدير والبريق في آن، وكل الكائنات ترصف أبدانها، مختفية خلف الزوايا ناظرة، مستبصرة، رأيت الله في المطر والبرق والرعد والسحابات المفروشة على مهد السماء، وادعة، واعدة، مسفوفة بمواعيد الهطول الجميل. هناك رأيتك، في الصمت تحت زخات ونزيف وأزيز، تمكثين في الهدأة، تلبثين في السكون، عيناك كانتا نجمتين تغطان في هجوع، وتسبين أنت مثل وردة زاهية بين العشب القشيب، كنت ترفلين بسماحة النوم، كنت تجردين الليل من سواده، وأنت تلبسينه ضوء المحيا، وأنت تتمتمين بلغة سريالية، وتنشدين لأجل المطر، وتعزفين لحناً وجودياً على وتر النغمات الناعمة. ولم يزل المطر يدوزن أوتاره، ويشجب كل تهورات العالم، ويدعو للحظة فيها العقل ينسجم مع بوح الطبيعة، يدعو الضمائر إلى إعلان هدنة، والكف عن الضجيج، والعكوف على تلاوة آيات المطر، والنظر في معطى السماء، وهي تسكب رحيقها على الأديم، وتغسل ضمير التراب من الأدران، والأوثان، والأحزان، والأشجان، وترتب لواعج الطير، ووجدان الشجر، في هذه اللحظة تجلس الغيمة، وتخيط معطف البرودة، لأجل أن يخبئ الكون مشاعره في مدفأة النهار، بينما النهار يهرب شيئاً من ملاءاته الدافئة إلى خارج نطاق الأحداق المسمرة باتجاه الفضاء المبلل. شعرت أنك ثملة بأفكار ربما لم تكن في الوعي سوى بهتان المشاعر المباغتة، وهي تسقط على الوعي مثل المطر، ساعة توهج الذاكرة. قلت وأنت تشيحين بوجوم: تذكرت شيئاً ما، تذكرت طفولتي، وأيام كان المطر يتوغل في سقف الخيمة مثل أفكار شيطانية، وتطيح بأحلام الصغار المندسين تحت أغطية الدفء. فدمعت عيناك، وقلت: كان زماناً جميلاً ومراً.