في هذا الزمن المنكسر الإيقاع والهارب في حد السيف وهوس القتل وشهوات التدمير، في كل بقاع الأرض، تتآكل شفة الإنسان الذي يوشك أن ينطق بصوت الحب والسلام. ويختبئ الوجه الصادق في شق الخوف، وينوح القلب المصلوب على سور الأحزان. يتساقط جرحاً، جرحاً، وتتبعثر الأحلام وتتلاشى كأوهام تغوص إلى قاع النسيان. ويموت الشوق المنغرس حنيناً إلى شرقٍ مشرق في أعمق أعماق جذور الإنسان.
حفّر يا نصل بتوغل مثلوم الأطراف. ويا نصل الموت لا تحفر في نبض القلب الدافئ مقبرة الأفراح المذبوحة في وهج الأعراس. ولا تحفر مقبرة لأفراح الإنسان النازف التي أضحت حقل جفاف، ولا تجعل الموت يقطف نشوة الأحلام، فلا شيء في هذا الزمان الذي غرق في وحشية الضلالة يحدّ من الأحزان، أو يمسح دمعة مجروح في هدب الإنسان. فالكف التي كانت تحنو علينا مرّة، صارت تغتال الفرحة مرّات.
ربما أذكر أني حين انزلقت قدمي من رحم والدتي (رحمها الله وأسكنها فسيح جناته)، في ليلة نزف مجهولة، ووطئت الجرح المتفتق في صدر الأرض الهشة، سقطت أهدابي المبهورة في ضوء الدهشة، وارتجت صرخة جرحي الأولى، فكتمت الصرخة ولم أصرخ، لكني حين لعقت الصرخة كطفل للداخل، نمت أدغال جراحي المجنونة. وحين كبرت وتوغلت في طرقات العلم والكشف والإبداع وهوس القراءة والمعرفة، انتصبت سهام عذابي تنخرني وتجرح روحي بعذاب لا يبرأ من وحشية تمتد على مدار هذا الكوكب. صرخت: آهٍ، آهٍ يا أفراح العالم المذبوحة، كيف أتيت إليك؟ لكني أتيتك يا أيها الإنسان، لكني أتيت. أعرف أن أقداح الفرحة على أرضك مسفوحة، لكني أتيت! أعرف أني عرجاء جئتك، لا ماء في نهري ولا خصب في ترابي- واخجلي- لكني أتيت. أعرف أن أقدامي ما زالت عالقة في رحم الأمس. لكني أعرف أن القدم المنزلقة في جرح الحاضر سترحل إلى مدن النور التي تشع كمنارة على الحاضر وتضيء خفايا تراث الأمس. وحين دخلت مدينة هذا النور، انسلخت نفسي من عتمتها، ودخلت مسار الذرات المؤتلفة في دهشة طفل ضوئية. صرت كمصباح يتألق ويشع ليضيء عتمة الليل، وتقيأت الحزن الأسود الجارح في وجه الأمس. وحين خلعت الثوب الوهمي الزائف ألقيت به في وجه الخوف ولبست الثوب الضوئي المتدفق من وهج القلب العاشق، تساقطت ملامح وجهي البشري، وتشعشع من قلبي النور، وأدركت أن نور الله العلي القدير يضيء خطاي إلى طرقات الإبداع، وتعكسني مرايا الوجود على صفحات الحب والسلام!.