نكذب عندما نقول إن الإنسان المعاصر أكثر حرية عن سابقه، الإنسان الذي عاش فوق الشجرة.
نكذب لأننا وقعنا في خطأ تفسير المفاهيم، فأنتجنا قيمنا الخاصة، بزمننا وذهبنا إلى أبعد من ذلك، حين اعتبرنا أن الحرية نتاج مادي بحت، نحن الذين نصوغ معطفه، ونحن الذين نجلب غيمته من السماء كي تغسل قمصاننا من أدران التاريخ.
خطأ عظيم أن نتصور أن الإنسان المعاصر الذي هدم حصن الباستيل، والذي قضى على صكوك الغفران، والذي منح الإنسان حرية التفكير، والسلوك في مجالات مختلفة. ما حدث ليس أكثر من تقديم لعبة لطفل صغير يعاني من مرض عضال. اللعبة ليست إلا مهدئاً آنياً لا غير، وقد ظلت العقدة الأزلية كامنة في الداخل، وظلت معها الرغبة في الحرية.
لقد تصرف الإنسان المعاصر مع الحرية بصلف، وغرور، وفي بعض الأحيان بعنجهية، ما أدى إلى وقوعه في الخداع البصرية، وفي المخيلة الطفولية التي لم تخرج عن كونها قشة على ظهر موجة.
كيف يمكن أن نقتنع أن الإنسان المعاصر حقق حريته بالكامل، وهو لم يزل يفكر بالحرية. عندما تفكر بالشيء، فإنك لا زلت في المسافة البعيدة، أو القريبة منه إذن فأنت لم تنله بعد. كما أن الحرية التي يتحدث عنها العالم، ما هي إلا نقطة الضوء التي في السقف، وربما لا يكون ضوءاً للشمس، وإنما هو ضوء خارج من فتيلة فنار قديم.
في نهاية المطاف، سيظل الإنسان يبحث عن الحرية في مناطق مختلفة، وسوف يشعر بالضنك، وضمور الإشراقة في العين، ولن يكتشف أنه حر، إلا إذا اكتفى بذلك الضوء المتسرب في الداخل، ذلك اللسان الفضي الذي يملأ الصدر.
عندما يمتلئ الداخل بالضوء، لن يبقى في الخارج ما يحتاج إلى مصابيح وهمية كي تضيئه. الداخل هو عالمنا الحقيقي، هو بيتنا الذي نسكنه، وما عدا ذلك، ليس أكثر من أكواخ متفرقة في العالم، نزورها في رحلاتنا السياحية، الموسمية، ولكننا لأننا لا نعي معنى حريتنا، نظل متشبثين في هذه الأكواخ المؤقتة. نحن نطلق لرغباتنا أجنحة أوسع من طواحين الهواء، ونظل ننفخ في كتلتها وننفخ حتى تنفجر، ونصبح نحن في قلب العاصفة، بقايا تبحث عن رتقها، نصبح نحن علامة فارقة في زمن يتجه إلى الحرية التي تقبع تحت ركام من التضادات والمتقاطعات، والرغبات، التي في حد ذاتها، تقف عقبة أمام حريتي، وحريتك.
الإنسان القديم كان أكثر حرية، لأنه كان أكثر صفاء، والإنسان القديم كان أكثر حرية، لأنه كان أقل أنانية.