بدأ الإنسان حراً، ثم نمى إلى ذهنه أنه لكي يكون أكثر حرية عليه أن يطوق حريته بحرية أكثر.
وهكذا تراءى له أن حريته مضمونة طالما وعى الحرية، وطالما سعى إليها بوعي لا تشوبه أخلاط من الحياة.
لو نظرنا اليوم إلى الإنسان الحضاري، في عصر تتشابك فيه الحرية مع اللاحرية، سنجد أنفسنا أمام إنسان مزيج من اللاحرية، والحرية فكل ما يحسبه الإنسان أنه باب الحرية، ليس إلا زقاقاً مغلقاً لا يؤدي إلى فسحة، ولا إلى فرصة لأخذ الهواء النقي.
لقد غلف الإنسان المعاصر نفسه بحزمة من الرغبات ما جعله يرسف بأغلال قيدت قدرته على التصرف بحرية.
الإنسان الذي يفتح عينيه صباحاً وهو يعدد الرغبات التي يود أن يشبعها، ثم ينهض، وهو مثقل بهذه الكتلة الضخمة، ويغادر منزله بحثاً عن الوسائل التي تلبي مطالبه، وما أن يصطدم بعقبة، حتى ينكص، ويعود أدراجه إلى حالة الحزن، والقنوط.
هذه الحالة في حد ذاتها، المآل الأكيد لعدم الحرية، هذه الأوزان التي وقع تحتها الإنسان، كفيلة بأن تخرج الإنسان من سماء الحرية، وقذفه في موقد الحرقات، جراء إحساسه بالعجز.
عندما يعجز الموظف عن تحقيق رضا المسؤول يشعر بالحزن، والحزن هذا يقوده إلى المربع الأول، وحيث ما بدأ.
فيظل يفكر في علامات الرضا، والقبول، لدى المسؤول، هذا الانقباض في حد ذاته هو الحاجز الذي يمنعه من الوصول إلى نبع الحرية.
عندما يشعر المرء بعدم القدرة على تلبية رغبات الأبناء، وينظر من حوله ويرى الآخرين قد تجاوزوا حدود التفكير في الرغبات، إلى مستويات أعلى من البذخ، يشعر أيضاً بأن جزءاً من حريته قد انتقص، وعندما يشعر الفرد بأنه لا يستطيع توفير حاجة استهلاكية قد لا تكون ضرورية، ولكنها أصبحت في مرحلة من مراحل الزمن جزءاً من الكماليات، يشعر حينها بأن حريته ذهبت إلى مكان آخر غير المكان الذي يعيشه.
عندما يفكر الإنسان ببناء منزل يشبه منزل جاره، ولا يستطيع، يحاط بهالة من معاول الهدم الداخلي، وتتكسر الكثير من الزجاجات في غرفة العقل، ويشعر بأن حريته في بناء منزل فاره تعرقلها قدرته المادية، وهكذا يظل الإنسان خارج الحرية الحقيقية طالما خرج هو عن نطاق هذه الحرية، وتشبث بقشورها، واعتنق فكرة: يجب أن أكون مثل غيري.
وهنا يصدق قول هيجل في الحرية «تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية». نحن قبل أن نتحدث عن الحرية، ينبغي علينا الوعي بالحرية.