المدن الصغيرة العتيقة مرتبطة لديّ بالراديوهات القديمة، التي ترقد في حوانيتها، منتظرة جامعيها من أنحاء العالم، وتذكرني بأول راديو رأيته في البيت وبوعي كان بحجم «بيب السَمِنّ» راقداً، حيث كان يفترش مطرحاً قطنياً شبه بال عجزنا عن تنجيده وضربه عند المُضَرّب، الذي عادة ما يمر على بيوت العين يوم الأربعاء، لم أعرف أن أقرأ اسمه أو أتذكر رسمه، وحتى الأهل لم يفكروا بذلك ما دامه يأتي بصوت الساحل من الشارقة، ولندن بطريقة مشوشة، وإذاعات أخرى تظهر فجأة تصيح بتنظيمات سياسية ماركسية، وتنادي بتحرير الخليج والجزيرة، لكن أهلنا ولا كانوا سائلين عنها، ويعتبرونها مغثة، ولا يفهمون عليها، ولا تعني لهم الرجعية أو الإمبريالية أي مذمة، لكن لو سبيت أخت واحد منهم فسيوسد عظمك برصاصة ظلت حبيسة محزمه طويلاً لوقت الحَزّة.
كان يشغل ذلك الراديو المطرز صدره بشبك بني وبيج ومذهب، بطاريتان حجم الواحدة كالطابوقة، موصلتان بطريقة بدائية، كشاحن السيارة، وحين يفضّي «البتري» نظل نضرب على رأسه الموصل للشحن، وحينما تقرب أن تنتهي، يصب فيها «تيزاب» لتعاود نشاطها، وليعاود الراديو من جديد، والذي كان بمثابة واحد من أهل البيت، وأقلط عنه، لأن الأهل يقدرون أن يخرسوننا جميعاً إلا هو، يظل صوته ملعلعاً، ومرات متحشرجاً، المهم أنه يؤنس الناس والبيت، ويسمعهم الأخبار، جهاز مثل ذاك لا يمكن أن يظل سليماً من عبث الفضول الطفولي، خاصة حينما عرفت من المُصَلّح من أين يفتح بأربعة «براغي» من الخلف، ظللت أفتحه لأرى العجب وأكتشف الأصوات، لكن شيئاً من ذلك لم يكن حتى أسلاكه الملحومة لم أتركها في مكانها، ورغم ذلك ظل يشتغل ولم يتوقف.
وحينما جاءت الراديوهات الجديدة أولها «ترانزستور» وهي بحجم المخدة، دخل بيتنا راديو منها كان أسود اللون من ماركة اسمها «سييرا» لا أدري إن بقيت تقاوم مثلما قاوم الراديو، يومها فرحنا بالجديد لأن صوته أكثر صفاء، ولا يترك إذاعة ما يجيبها، وفيه أغانٍ أكثر عن الأوليّ، شيعنا الراديو الهرم، ورميناه فوق السطح مع الأشياء المهملة، ففي الزمان لم نكن نرمي شيئاً في الكدافة أو الصنّية، مثلاً فردة نعال سرقت أختها أو انقطع سيرها، «تاير سيكل» قديم، طوّاق مسروق من ابن الجيران، «بيب سح حولي باقي شويه فيه» «واير فيه صفر» يمكن أن نبيع نحاسه على المصفّر ومصَلّح الجُوَل، كوار فقد رجله الرابعة.
ظل ذلك الراديو القديم وحيداً مع هذه الأشياء تصلاه شمس العين التي لا تبرد، ومرت الأيام الطوال، وكدت أن أنساه، لكنه طرأ عليّ فجأة ورقيت السطح أتفقده بعد طول الغياب، وجدته شاحباً، عبثت بأسلاكه فإذا بصوت شيخ جليل يتحنحن قبل أن يلقي السلام، فرحت أنه ما زال يشتغل، وأنزلته مكرماً كما كان، وكأنه واحد من أهل البيت!، ونكمل...