في وجداننا يكمن عالم آخر، ليس كالذي نعيشه هنا، ففيه متسع لكل شاردة وواردة، يستقيها من قصص الحياة يستمع لأصواتنا بصمت، ويتموّج بشفافية مذهلة. ففي كل كائن كائن آخر، يربك أو يرتبك عندما يقترب من مكان قديم أو حميم، يعود بنا إلى طفولتنا، يشاغبنا ويبث فينا تعالقات الزمن، فتتولد عندنا لذّة تنبع من الأشياء الكامنة.. نقبض على هذه اللذّة بحيرة وشغف، كأننا لا نريدها أن تفلت من بين أيدينا، ولا أن تغادر ملامحنا. إنه الزمن في كائننا الآخر يذكرنا بمسافات النسيان، ويصدمنا بالسقوط مرة، ويفاجئنا بالنهوض من جديد بمزيد من المثابرة والاجتهاد والتحدي.. تلك هي الآلة النفسية التي لا تهدأ في دواخلنا، ما يجعلنا نستمد المعنى من هذا الوجود.
يا الله من هذا العالم الخفي الذي يعشش فينا، ينهض في الصباحات البكر، ولا يهدأ مع أحلامنا، لا يعي الوقت، يكتب بحبر شفاف، ويرسم بريشة الفنان، يعيد صياغة الحب لأناس لم يختاروا هذا الشعور، يطرق أبوابا هرمت وكبرت وأنهكها الزمن، وأخرى مذهبة بصولجان الوقت، مثمرة بالجنان والحياة.
أن تشعر بما في داخلك من لذة اتجاه ما يتقاطع مع الحياة، فهذا هو عالمك الجميل المصغر، هذه هي حصيلتك من اليقين الراسخ، بأن هناك سعادة تكتظ في أرواحنا، فتنبعث الابتسامة متجسدة صفوة الابتهاج، تأتي الابتسامة بلا تكلف، وبلا تتطلب، تتولى مهمتها بتؤدة ولكن بعزم، أن تمحو ما علق على جدران أرواحنا من تعب أو حزن، وتكشح عباءات الظلام، لكي تنير تلك الدواخل الضيّقة فتصبح أكثر رحابة.
لكل منا مفهومه العقلي والذاتي وشعوره الشفاف، والذي لا يلامسه أحد سواه، في ما يتعلق بالزمن وحمولاته وإرثه الذي يشكل كائننا الآخر، لكن الجميع يتقاسمون تأويلا واحدا لما كان وما سيكون، هو الاطمئنان بأن الذي شكّل وعينا وأرواحنا قد أنجز مهماته، وأن أمامنا مهمات جديدة، طويلة، ثقيلة، ومتصلة، علينا أن ننجزها.
هذا وجداننا الذي خصنا به الخالق، هذه المستعمرة الإنسانية المتأصلة عبر الزمن، والتي لا يراها إلا الإنسان نفسه ولا يتعاطى معها إلا هو نفسه، يشعلها كلاما وكتابة وتفكيرا، ومنها يستمد قوة ذاتية ليطمئن إليها مثلما يطمئن الطائر لمكان آمن، فيبني فيه عشه.. وكلما تحررت الروح، وابيضت جدرانها، انجلى الوجدان الفردي، الكائن الآخر في دواخلنا، وحلّق في مديات الفرح.