ألوم اللؤم فيك حتى وإن أبديت ضده. وأعاتب صد عينيك عن جرحي، وانفلات يدك من يدي وأنت على اليابسة، وأنا غارق نصفي في اندفاع السيل ونصفي في رجاء الأمل. أيها الغصن الذي رويتُ ثمرته بماء المحبة، وصددتُ عنه الريح أحرس ارتفاعه برعماً ثم جذعاً ثم سنداً إذا انقلب يوماً علينا قطار المصير. لكن الأيام تتلاعب بالأغصان المائلة حتى تصير نهباً للأقزام. والحصان الذي لا تربيه المِحن، لابد أن يخذلك قبل النهاية. وأنا أسأل: أيهمُ الصديق بعد منتصف الطريق؟ جُلّهم ناخوا، وبعضهم تآخى مع فكرة النأي بالنفس واستوطن الزاوية، وبعضهم خطفته متاهة المشي في الدائرة المغلقة. والآن، عليّ أن أبحر نحو خط النهاية وحدي. مدفوعاً بذكريات الحب وهو زادي وناري والكلأ، منتمياً إلى الورقة الأخيرة في يدي، وهي ورقة القصيدة التي لابد أن تكتب بجمر الحقيقة وإلا أحرقني كتمُها.
سببان للموت، أولهما حين يتسرّبُ الضجر إلى معناك، فتتراخى فيك خطوة الشغف بالحياة وينطفئ اندفاعك نحوها. وثانيهما، عندما تصعد سفينتك التي بنيتها العمر كله لتكتشف أنها مثقوبة في المقدمة، ومجروح شراعها، وحبل مرساتها مقطوع. وعليك بعد ذلك أن تصارع الريح وحدك، وأن تعبر في المضائق والمنحدرات معتمداً على رجليك الحافيتين. لأنك قررت يوماً أن تبحث عن المعنى، منقباً في طول الأرض وعرضها عن حلٍ للغز وجودك العبثي. وسوف يلقبك الضاحكون على لعبة الأقدار باسم: الحائر المجنون. وستقول امرأة ظننتها حبيبتك يوماً: دع الصخرة، ولا تنقش قصائدك الغريبة إلا على مناديلي. لكنك ما عدت تعبأ بالكلام، ولا يهمّك سوى أن تطارد الضوء لترى أين ينام عند حلول الظلام، وهيهات تنال سعيك.
سببان للحياة، ثانيهما أن الذي يشدّك نحوها ليس حبلاً، وإنما الرغبة الدفينة للخروج من أسر ذاتك الضيقة إلى رحابة الأفق البعيد. وأولهما أنك في الطفولة كنت طيراً، ولكن ظلت الأقفاص تكبرُ من حولك كلما مددت جناحاً، أو نطَقَتْ روحك بعشقها للسفر والرحيل. أنت الذي كسرت مهدك الأول رفساً. وأنت الذي حبوت نحو النار، وقفزت على الجدار، ومددت ذراعك لتقطف القمر. وأنت الذي قلت: هذا البحر مجرد قطرة، وعطشي لا يرتوي إلا أن أذوق المسرّة. فهل من بيتٍ سيأوي مثلك إلا القصيدة؟ وهل من سماء تحدُّ مثلك غير الورقة الأخيرة؟ أيها القلم.