سؤال نطرحه على العقل. ما العقل؟ فيقول إنه الوعاء الذي يخزن كل الأفكار والأحداث، ويضعها ملكاً للإنسان. فقد يتسع الوعي أو لا يتسع، وقد يدرك أو لا يدرك. زحمة الأفكار ليست ملاذ الوعي، بل قد يكون لها النهاية المؤلمة التي تصيب الإنسان إذا لم تتبع الأفكار إرادة التنقية وتصفية العقل من الدخان ومن الغبار، ومن ملوثات الأفكار التي تلم بهذا العقل. كثيراً ما يقع المثقف بمحنة التثاقف، وتتورم لديه الأنا، ويصبح مثل البالون المنفوخ بالهواء، فيظل ينتفخ، وينتفخ، إلى أن ينفجر! زحمة الأفكار مثل تكاثف الدخان في غرفة محترقة، إنها خانقة، ولا تؤدي إلا إلى انتهاء الحياة فيها. إذا لم يقم الإنسان بتخليص العقل من الأفكار الملوثة، فإنه يتحول إلى مكب نفايات، لا تفوح منه إلا الروائح الكريهة. نحن نحتاج إلى الوعي المتسع، نحن نحتاج إلى ذلك النهر الذي تنهل منه أشجارنا، وتسبح فيه طيورنا. نحن نحتاج إلى ذلك الوعي الذي يميزنا عن سائر الكائنات، فلا يغضبنا نجاح الآخر، ولا تحبطنا كبوة المرحلة. نحن نحتاج إلى أجنحة الوعي التي ترتفع بنا عن الهنّات والزلات والإخفاقات. نحن نحتاج إلى موجة الوعي التي تنظفنا من نشارة الخشب، وعوادم السفن التي تمر ببحرنا.
نحن نحتاج إلى نسيم الوعي الذي يهفهف على وجوهنا، وينقينا من ملوحة العرق. نحن نحتاج إلى وردة الوعي، كي تعطر وجداننا، وتنثرنا في الوجود، أشجاراً لها رائحة الأحلام الزاهية. نحن نحتاج إلى نخلة الوعي، كي تلقي علينا الرطب جنياً، ومن غير تهلكة. نحن نحتاج إلى ريشة الوعي كي تلون حياتنا بالبريق الأنيق. نحن نحتاج إلى سحابة الوعي، كي تبلل شفاهنا بالكلمة الطيبة. نحن نحتاج إلى نغمة الوعي، كي نرفع النشيد عالياً، ومن دون أحزان تاريخية، تعرقل وصولنا إلى الفرح. نحن نحتاج إلى شمس الوعي كي تضيء سماءنا بالشفافية. نحن نحتاج إلى هذا كله، عندما نكون خارج الأفكار المسبقة، عندما نكون بعيداً عن النوايا السيئة، عندما نكون بلا شك ولا ريبة ولا مرية. الوعي وليس الأفكار، هو الذي يجعلنا مقيمين في الحقيقة التي نبحث عنها. الوعي وحده يجعلنا في قلب الوجود، يجعلنا في ملحمة الارتقاء. الوعي وحده يجنِّبنا الصدام مع الحقيقة، الوعي وحده الذي يذهب بنا إلى الطمأنينة، بقلوب وادعة مثل الطير في الأعشاش، مثل الماء في الجدول.
الوعي هو الذي يغادر بنا بعيداً عن الأهواء والأنواء، الوعي وحده هو الكائن الذي لا تهزمه الإخفاقات، وهو في طريقه إلى المجد.